رجل يتجوذل في ذاكرة طفولته

*محمد فائد البكاري


المدخل
بدءا من تسمية الكتاب (الانبهار والدهشة) نجد أن زيد مطيع دماج كان يعمد إلى التجول في ذاكرته, وفتح ألبومات الماضي, وهي لا شك مكتظة بآلاف الصور, لكن اختياره لصور بعينها لصنع معرض فني خاص بمدينة تعز أو مدينة القاهرة, كان اختيارا مقصودا يوجه رسالة يتقاطع فيها الذاتي بالموضوعي تتقاطع فيها رؤى الطفل المندهش بواقع (تعز , عاصمة الأمام أحمد) ومن هنا كانت الذات الساردة في فرديتها تتبنى رؤى جمعية تشمل المجتمع اليمني وتشير بإصبع الاتهام إلى المسئولين عن ذلك و كأن لسان حاله يقول لكل متلق ذلك ما جرى أو ما كان يحدث لنا وعليك أن تعرف وأن تعيد الاعتبار للتاريخ.
ويسجل كتاب الانبهار والدهشة موقفا فنيا متقدما بالنسبة لأدبنا اليمني من خلال إصغائه لوشوشات الأمكنة والمعالم وقراءته لعلاماتها وعلاقاتها ببعض ساكنيها أو مرتاديها و رصده لأثر كل ذلك ووقعه على وعيه الصغير آنذاك وهو في رصده يستلهم موروثا بعيدا في الحكيليكون رصده رصدا يستوقف المعنى, ولا يتوقف عند حدود التذكر.
فالكتاب بقدر ما يؤرخ لحقبة زمنية من خلال رصد مشاهداته لمعالمها و ما يتعلق بها من وقائع و أحداث و أشخاص فإنه ضمنا ـ وأحيانا بجلاء ـ يدين حقبته هو تلك الحقبة التي كانت زمن الحكاء/ السارد.
وبقراءة سريعة للكتاب يتضح إن الكاتب لم يعول على تصنيف عمله هذا, متخلصا من ملابسات التجنيس الكتابي وشروط النوع الأدبي, ملقيا العنان لذكرياته وحدها في نظم عدد من المشاهدات في سلك الدهشة والانبهار.
كتاب تعز :
في كتاب تعزـ تحديدا ـ لقطات منتقاة من ألبوم الذكريات لعدد من المعالم والأماكن والأشياء و الأشخاص قدر لزيد مطيع دماج في سنوات طفولته وصباه أن تكون تلك المشاهدات باعث دهشته و انبهاره, وقد جاءت تلك المشاهدات في سياقات عفوية تتصرف في تحريرها ذاكرة طفولية حريصة على عدم تدخل خبرة الروائي (صاحب رواية الرهينة), أو تجربته السياسية والحياتية في التعليق عليها أو معالجة انطباعاته الأولى وهذا لا يعني إن لاشيئ من ذلك قد حدث فأحيانا تنسرب خبرة الرجل وترتب أوراق الطفل أو تعب على تصوراته ومرصوداته حتى وإن لم تخطط لذلك بقصدية .
ومن هنا تأتي تلقائية التعبير متمثلة في متواليات التداعي والتكرار دون ترتيب أو تخطيط أو تسلسل ودون احتفال برصد التحولات التي طرأت على تلك المعالم التي التقطتها عدسة الطفولة القروية ومن ثم كان سبب الانبهار والدهشة أو كما يقول: « ولأنني كنت صبيا قادما من الريف دخل إلى فضاء أوسع وأكبر من قريته كان لابد أن أدهش بانبهار لأشياء لم تكن تخطر على بالي» صـ15 فتعز التي حاول الطفل زيدأ أن يوقعها في شباك الحكاية عنها ليست تعز الجغرافيا أو التاريخ إنها تعز الزمن الذي يتحرك في وجدان الطفل القروي الطفل المنبهر.
أما تعز التي في عيون زيد مطيع دماج, فهي ذلك العالم المجهول الذي ما تنفك لذة اكتشافه ترفده بدلالات حميمة وربما غامضة أو مبهمة, ويحاول فك طلاسمها من خلال سرده اللاحق لزمن المواجهة الأولى, زمن اللقاء الأول بالغرابة والمتعة والطرافة, زمن الملامسة البكر, تلك الملامسة التي طوقته بهالة من الدهشة لم تغادرúه حتى بعد أن غادر سنوات الطفولة واكتملت لديه إمكانية التقييم والحكم على الأشياء والكائنات والمواقف والأمكنة.
تعز التي تتمدد في فضاء الذاكرة ولا تزال عزيزة عليه حتى زمن سرده لاسترجاعاته عنها, ولا يزال رهينة الانبهار بها, قدر حرصه على عدم التفكير في الأبعاد والظواهر والملاحظات, وقدر محاولته تحييد إدراكه ووعيه بما وراء تلك المشاهدات, أو تظهير شعوره في البعيد تجاه تعز اليوم, وانبهار زيد لم يكن لحظويا أو محدودا بزمن, فهو انبهار ينفتح على مناوشة شواغل فكرية, ويؤرخ لمرحلة هامة من تأريخ اليمن من خلا التأريخ لمدينة فهو يفتح محاضر معاينة لزمن وجده حبيسا في أمكنة لا تزال تنبض بحياة .
معالم وأحداث :
وعلى الرغم من أن الكاتب لم يقم بتقسيم كتابه وفق مشاهداته إلى موضوعات وقد جاءت كلها متداخلة يفضي بعضها إلى بعض أو يشتمل بعضها على بعض دون ترتيب أو تسلسل واضح المحدداتـ وهذا يكشف عن ملمح الحكي وتحكمه في إدارة وجهة السرد ـ فإننا عمدنا الى التقسيم مقاربة اجرائية في تسيير هذه المقاربة.
و لا يخفى كما سبقت الإشارة إن مدركات الطفل أعادت استقراء كثير من الأمكنة بقصد استجلاء ابعادها الدلالية قبل الجمالية وتدوين ملاحظاته وفق ما أحس به تجاهها لا ما علöمه عنها لكن ذلك كله ظل في دائرة الذاتية التي تداخل فيها التخيل بالمعرفة فهو إذú يؤرخ لتلك المعالم ( سور تعز, مدرسة أو

قد يعجبك ايضا