توسع غير مدروس

محمد العريقي


إذا كنت مسافرا عبر الخطوط الداخلية الطويلة تتهيأ للاستمتاع برحلتك بمشاهدة مناظر ربما لم تعرفها من سابق أو اغتربت عنها لفترة طويلة, وفعلا هناك مشاهد طبيعية حلوة وجميلة, ولكن سرعان ما يتغير المزاج وتتحول مشاهد السفر إلى أمور منغصة تجعلك تصدر الآهات من أعماق جوفك, وتتحسر وتقول لما كل هذه التشوهات والاختلالات التي يصنعها الإنسان, ولنأخذ على سبيل المثل : التوسع العمراني غير المدروس .
لاشك أن الكثير منا اقتصرت تحركاته في المدينة التي يعيش فيها مابين العمل والبيت, وفي أحسن الأحوال التردد على الأماكن القريبة أو إلى وسط المدينة, تجنبا للزحمة والضوضاء, أما إذا سنحت لك الفرصة الخروج إلى الضواحي, ستجد نفسك تتنقل من مدينة إلى أخرى في إطار المدينة التي تعيش فيها .
الآن حافلات السفر الكبيرة التي تتجه من صنعاء إلى تعز تتجنب السير من وسط مدينة صنعاء, وتستفيد من الشوارع الواسعة نسبيا التي شقت مؤخرا في جنوب غرب العاصمة حتى تصل إلى الطريق الرئيسي, قبل ذلك ستجد نفسك في تجمعات سكانية كبيرة وجديدة ربما تتوالد على مدار شهور قلة .
توسع مربك وغير مدروس البتة, لا يوحي بأي تدخل للتخطيط المسبق, وكل ما في الأمر هو محاولة فرض أمر واقع من قبل أصحاب وملاك الأراضي ومن يبنون في تلك المناطق, فهم وحدهم الذين يحددون مساحة الشارع, وطريقة البناء ووو أما دور التخطيط العام فيأتي متأخرا مستسلما لواقع التشويه والإرباك.
قبل 12عاما تقريبا اصطحبنا الصحفي الكبير الأستاذ محمد الزرقة رحمه الله في جولة حول ضواحي العاصمة من الجهة الجنوبية وكان وقتها التوسع لم يتجاوز شارع الخمسين قرب بيت بوس, فقال لنا أن المدينة تتوسع بشكل مخيف لا ندري كيف سيتم تامين المياه في مدينة مهدد حوضها الجوفي بالنضوب, وكم من التكاليف لمشاريع الصرف الصحي, وماذا سيبقى من أراض زراعية تمد العاصمة بحاجتها من الخضر والفواكه, اليوم لو شاهد رقعت التوسع العشوائي الكبيرة ربما لعجز عن التعليق .
الآن تتوسع المدن شرقا وغربا وشمالا وجنوبا بالمباني , وبدلا من أن يتم التخطيط وتحديد احتياجات المرافق والخدمات العامة مسبقا, وبعد ذلك يبدأ المواطن بملاحقة الجهات المختصة للتراخيص والموافقة على إنشاء تلك المباني والمرافق, نجد العكس في بلادنا, الدولة أو الجهات التي تقدم الخدمات هي التي تلاحق المواطنين (وغالبا ما يكونون من أصحاب الوجاهات والمتنفذين) الذين فرضوا أمرا واقعا مشوها, ملتهمين الأراضي الزراعية, ومستحوذين على التلال, ومتسلقين الجبال, هم وحدهم القادرون على ذلك لأنهم يمتلكون الأموال التي تمكنهم من تشييد القصور والفلل الفاخرة, والمنشآت التجارية وبعد ذلك يلزمون الدولة بشق الطرقات وإيصال خدمات التعليم والصحة, والإنارة والمياه والصرف الصحي والهاتف إليها, وقد تقام تلك المباني في مناطق خطيرة وغير مناسبة ولا تجدي نفعا اجتماعيا أو اقتصاديا, مثل انتشار ظاهرة الفنادق خاصة في الجهة الجنوبية الغربية والجنوبية من العاصمة صنعاء, لا ادري من اين يأتون بالنزلاء لهذه الفنادق التي لاشك تكلف الكثير من الأموال دون عائد اقتصادي مثمر, واعتقد أنها أموال مغتربين كان يفضل أن تستثمر في قطاعات أخرى لو كان هناك من يوجه ويرشد هؤلاء للاتجاه الاستثماري المفيد على المستوى الشخص والبلد.
ورغم هذا التوسع (المشوهة) طولا وعرضا لم نلمس مع ذلك أي بوادر لحل أزمة السكن لذوي الدخل المحدود, لان الأموال التي تنفق في هذا التوسع تتم لإنشاء إحياء ومدن جديدة بشكل أفقي مبالغ فيه لاحتياجات خاصة, أو مبان بغرض الإيجار لفنادق أو منشآت حكومية او مقرات لشركات خاصة أو للسفارات والمنظمات (بالدولار), وفي ظل واقع اقتصادي واجتماعي مهزوز يتوغل فيه الفقر والبطالة, لاتحقق معه أي فوائد مستدامة لأصحاب تلك الأموال.
وحتى على مستوى الاستمتاع والرفاهية الشخصية لن يحدث, فالمباني الخاصة والعامة مسورة بالأحجار المنجورة المكلفة أو البلك الإسمنتية, بارتفاعات عالية وفوق ذلك ينصبون ألواحا من الحديد, فيجعل من الصعب مشاهدة ما في داخل السور وكذلك من المبنى يصعب عليهم مشاهدة ماخارج السور, وضع كئيب ليس له مثيل في بلد آخر, في الدول الاخرى المنازل محاطة بالتشجير وليس بالاسوار الصماء التي ليس فيها حياة.
كل ذلك يعكس أن الأمور تسير بدون ضوابط أو هدى, وكل هذه الأموال تهدر بدون أي رؤية, فلو كان هناك حس استثماري وتكامل في الأدوار لتم التفكير بمشاريع ذات عائد اقتصادي واجتماعي, فقطاع العقارات أصبح اليوم هو أهم القطاعات النامية والرابحة في العالم, وخاصة في مجال شركات المساهمة التي تنفذ مشاريع سكنية كبيرة, تلبي احتياجات كل شرائح المجتمع وخاصة ذوي الدخل المحدود.
فأين التدخلات الارشادية التي تشجع على اقامة مثل هذه الشركات, وأين التدخل المسبق من قبل الدولة حتى لاتستمر م

قد يعجبك ايضا