( عهدة )

عائشة عبدالله المزيجي

تتحنن الشمس على الكون وتتفرع تحركات الحياة عند السابعة والنصف تمتثل أمام المدير مقترحة وهي تؤرخ حضورها : ألا ترى أن صفحات هذه الحافظة قد ملت تلطيخها بخربشات أنفسنا وتوقيعاتنا منذ وضعت قدماي هنا عقدين من الزمن واليوم ابن الأمس .
المدير : أما ترين سمك الورقة والألوان المحيطة بها وغيرها من جديد إدارتي .
عهدة: أقصد الخروج عن دائرة الورق وإحلال موظف الآلة لنسخ بصماتنا وبذا نقلل من الكوادروتتضاعف أجرة العاملين الباقين والأيادي الفانية .
المدير أرجو أن يكون ذلك في حياتي .
يعلن موقف الشمس وانتهاء دوام عهدة سير قطرات العرق على وجوه المارين بمحاذاة الرصيف والقاطعين سرعة المركبات وسط الطريق .
يستقبلها استهلال شارع الغيل بوجه منزلهم ذي الطابقين وأحجاره الكحلية الباهتة وقد رسم الزمن بين كل حجرة وأخرى ما يمكن من عد صفوفها .
يلتصق وجه أمها زكية بزجاج نافذة ذاك المنزل العتيق وقد تدلت مسبحتها ذو التسعة والتسعين حبة إلى نهاية صدرها الغائبة ملامحه مع ما تراكم عليها من أثواب القطن .
أما عامر فوالدها المتجه لفتح الباب وقد غلفه الجاكيت الأسود إلى ما انتهى من ساقيه المسدل عليهما ثوب مخطط بعدة ألوان .
يسبق دعاؤه فتحه للباب : الله يثبتك يا بنت كما ثبت أحجار البيت .
تلتفت زكية إلى باب الغرفة متمتمة مدى الحياة جعلك الله يا ضنينتي شمس ما يختل نظامها . تلقي عهدة السلام وقد زان مجهودها مغايرة سواد تحت عينيها لباقي بشرتها المصفرة .
تنفض ما عليها من حجاب وتعب تطوف كالنحلة حول ستة غرف الأولى يملأوها دفء والديها والثانية يفرشها ما بلي من فرش يتوسطها مائدة أكلهم الخشبية أما الثالثة فتحفظ أمن الغد من دقيق وسمن وسكر وما زاد من أواني طهي الطعام , وجديد أدوات الولائم التي تجمع الأهل بين تارة وأخرى . أما الرابعة فغرفتها وملقى نومها وراحتها , والسادسة فديوان الضيوف يحتفي بالداخل عليه رائحة العودة وجودة البخور .
أما السادسة ذو نافذة واحدة يفترش مساحتها الصغيرة جدا خيوط صوف فارقتها يد ناسجتها منذ ساعات , و مشاريع صوفية معلقة تم نسجها تلبس سن السنة والأربع من الطفل والطفلة : قبعات تحري البرد , أثواب قصيرة لعرض دلال الأسرة وجوارب ثنائية الألوان زاهية .
لا يصل إلى منتجاتها وأهازيج روحها إلا من قرب من الأهل والجيران بثمن بخس لا تطمع من ورائه سوى رد رأس مالها وهي تملأ ساعاتها بما يجدد وجودها .
في السابعة والنصف مساء ترتاد تلك الغرفة وقد رشت روحها برضى والديها يعترض انبهارها وخلو مشغلها صوت أمها : يا بنتي ثلاث ساعات أو أربع تسبب لنا فتح بابنا نهارا للجيران دون فائدة ونحن مستورون بوجودك والعافية .
إذا أنت هوية وتريدين شغل فكر الليل اشتر لك مسبحة بمائة وثمان وتسعين حبة تريحين بها أوصال جسدك .
تقر عهدة قرار أمها بالصمت وتترك باب مشغلها مواربا تمشي بهدوء يلطم وجهها ماأرسلت قمريات الغرف مما فاض في الصالة من نذور البرق المتوعدة بصدى رعد يفرغ ما اكتظ في السماء من شرر الأضواء .

قد يعجبك ايضا