وقفة مع رواية »جمعة«

عائشة عبد الله المزيجي

عائشة عبد الله المزيجي –

حين ترى الرواية في صفة الامتداد ترى تجسيد ذلك منذ العنوان جمعة ذات الأسماء الخمسة الموحية بطول القول والسرد وانتظار الرؤى في كل اسم على حدة ( جوهرة , عهدة , ولاء , فضيلة , جمعة ) , معها قد تخمن أن تكون البداية السردية تقليدية من قدم بعض تلك الأسماء و عمق معناها المعهود لدى القدماء الذين يألفون المعنى ويسعون إليه . وتفاجأ حين ترى تحقق تخمينك مع البداية التالية ( جمعة امرأة من الماضي صعدت فجأة من قاع الذاكرة , حيث نامت هناك ما يزيد على خمس وثلاثين سنة , لكن نومها هناك لم يمنعها من أن تعبر الزمان والمكان في رحلة العمر المتشظي .. إلخ ) ص3 لكنك تبتعد عن تلك التقليدية بموسيقى تلك السطور , وفن التصوير العارض للفكرة .
وجهة نظر حين يجد الكاتب الاستاذ ياسين سعيد نعمان لديه القدرة على الفصحى مائة بالمائة ربما لا يتجه صوب العامية . وما أكثر الفصحى وأقوى الحبك اللغوي والتطريز التصويري للمعاني التي امتلأت بها سطور الكاتب أذكر القليل جدا من بحر ذاك التصوير ( قاع الذاكرة , الوساوس تلوك تجاعيد وجهها , يحفر في القلب جرحا , , جحافل الليل عبرت فوق الزمن …إلخ ) إلى جانب صحة وسلامة ورصانة السبك وغزارة المعنى المتوارد كالسيل لا تنتهي مقاصده ومع فنية وضعها في المكان المناسب والموقف اللائق بها كل ذلك دال على أن القلم ليس متعثر حتى تنتشر العامية وحرف الشين والشنشنة ( ماخلانيش , أيش , قدرتش …) أذلك اعتقاد أن الواقعية واقعية اللغة وأن لا يعرف المكان أو ينسب الحدث إلى فئة إلا بلغتها …أم أن الواقعية هي واقعية الحدث وما أراد الكاتب بذلك إلا تأليف قلوب المتلقين مع العمل إن كانوا من أهل تلك اللهجة وإن لم يكونوا فمتعة استكشاف ومعرفة بصفة اللهجة ومكان انتسابها . أم أن الفصحى والعامية تسيران معا بشكل متوازي لتلمس في المتلقي مواطن التأثير أيا كانت .
الغلاف دال على الصوت الغالب في الرواية (المرأة ) فهي الشخصية الموجه إليها قضايا غير عادلة يصاحب هذا الصوت صوت الرجل السارد الذي هيأ وأعد مدخل الرواية وهو يصف جمعة بعد صفحة الغلاف ويعرض نبذة تنويرية عن أسرة جمعة وماضيها من ص 3 ,4 ومن ص8 نهاية الفصل الأول يبرز صوت جمعة ساردة سيرة ذاتية أمام شخصية الرجل السامع كطبيب نفساني وجمعة المريضة الممتدة مع المكان والمتأثرة بشظايا الزمن المسرود عنه إسهابا يدور داخله ثلاثة من الزمن ( الحاضر لجمعة والرجل السامع محيط الدائرة يلي ذلك محيط زمن ماضي الشخصية وعراكها مع مسببات تسمياتها ثم المحيط الثالث ماضي الماضي انطلاق جمعة من بيت المخاوي وقصة أشلاء الأسرة الواحدة ..
أما ذلك الإسهاب فليس الباعث إلى الملل من قبل المتلقي وهو يخدم رؤى الرواية حين كان رحلة لأصيلة رحلة حسية لها ثمار معنوية والشخصية تغتسل بجمال الطبيعة وتلتصق بعظمة الجبال وتمتص وعورة بعض الطريق لتلتقي الشخصية القادمة على حياة جديدة .
نهج الكاتب كثير الطرق لولادة أفكاره حتى الرمز الذي حفل به الفصل الثاني مع الحمل الذي كان امتلاء بالمعاناة القادمة وغياب السيد إلى جانب موت والدة جمعة المغتربة عن ابنتها روحا وجسد , كما كان الحمل ميعاد المسرة ووجود الهداية ابنة تخلق شخصية جمعة من جديد رغم الهموم الاجتماعية والنكبات السياسية التي أظلت تلك الفترة .
نهاية غير متوقعة التي تخيب سير أفكار المتلقي حين يسمع صوت جمعة مع شخصية الرجل المخاطب لها في بداية الرواية ويلتقي بجمعة في موكب الثقافة بصنعاء فتتناثر أفكاره وما رتب من عتمات المستقبل على جمعة , لو علم المتلقي بتلك النهاية السعيدة لما استساغ التألم مع جمعة في مراحل سيرتها الذاتية المبدوءة على لسان الراوي ( ما عليك إلا أن تتأمل في أهدابها لترى الزمن يتدفق كشلال في صور محروقة الأطراف ينبعث منها دخان ونيران و أشلاء …) ص4
عادة الفن اختيار درب اللامباشرة والإ يحاءات لكي تكون للقصة ماهية تحترز الوعظ والتفسير لبعض مواقف الشخصيات والحدث وتترك للشخصية والمكان والزمان مهمة جمع عناصر الرؤى من تحركاتها تأمل نصح الأم ( يا بنيتي لا تخلي الحقد يأكل قلبك , لو قابلنا الخطأ بالكراهية والحقد لتحولت حياة البشر إلى جحيم …) ص7 ووجهة نظر السيد وتفسيره ( الذاكرة مخزن الأسرار والأحداث والوقائع مخزن الأحلام ما تحقق منها وما لم يتحقق … . وحينما تحزن تسعفك بمشاهد من لحظات الفرح وكأنها تهذب فيه السلوك المسرف … إلخ ) ص8 هذه النصائح والرؤية المنقولة من قبل الشخصية أقوالا لا أحداثا يستشفها المتلقي في عالم القصة من تصرف الشخصية . هذا المسلك من الكاتب لم يجن لاي إلا إصغاء المتلقي لجميل المعنى وكأنه أمام أحداث قصصية يتاثر بها لا أقوالا

قد يعجبك ايضا