الأغنية اليمنية بوصفها حائط تدوين

زكي شمسان

كان الثلج يتساقط بكثافة خلف النافذة الزجاجية. الغرفة دافئة لكن روحي ترتجف كنت أدندن لحنا شعبيا بصوت خفيض و أنا أراقب تساقط الثلج قبل أن يقاطعني صديقي الكردي الذي مد يده لمصافحتي: لحن مألوفذكöرني لمن هذه الأغنية¿. أجبته: أغنية شعبية يمنية أستبعد أن تكون قد سمعتها من قبل أغنية تتحدث عن الفقد ولوعة الفراقلكن صوت الفقد واللوعة في اللحن ليس غريبا عليك يا صديقي الكردي ربما هذا ما جعلها تبدو مألوفة لديك.

حين سمعت أغنية “مسعود” أول مرة وكنت حينها مراهقاسألت مسنا مهتما بالأغنية الشعبية: ما الذي جعل مسعود حالة جديرة بالتدوين¿. في هذا الريف المترامي جميع الرجال هنا هم “مسعود” بشكل أو بآخر. كائنات افتراضية لا يلتقون بأحبتهم إلا للتلويح لهم بقبلات الوداع. جميعهم يقضي أيامه هناك خلف هذه الجبال السوداء القاسية القلب حيث لا أحد هنا لديه أدنى فكرة عن الكيفية التي يقضون بها أيامهم هناك. نعم يعودون في الأعياد بالملابس و المال والعطور. يقضون أياما معدودة بين أهاليهم كضيوف غرباء مكرمين. وسرعان ماتبتلعهم تلك الأقاصي المترامية خلف هذه الجبالحتى وإن لم يكن لديهم تصور واضح عن دوافع الإغتراب. فحين يصبح الوجود صعب التحقق بمعناه الإيجابي قد يبدو الغياب عن الأنظار خلاصا من نوع ما. سألته: لماذا “مسعود” بالتحديد إذا¿ أجابني: ربما لإن مسعود لم يعد حتى اللحظة إذ لم تعد سوى ساعته المعدنية “أبوصليب” و “الكمر” أو الحزام الأخضر ذو الجيوب الجلدية الصفراء. لا أحد يستطيع الجزم أن الساعة والحزام ل”مسعود” ذاته فربما كانت تخص “مسعود” آخر من قرية مجاورة. لكن ما لم يعد مسعود ذاته سيبقى الجميع يؤمن أن الساعة و الحزام يعودان له شخصيا لا أحد يحتمل الفقد المطلق يا بني.
تأملت بحزن في غرابة وتناقضات الأغنية إذ حين كانت عروس مسعود تتعثر في بكائها وهي تهمس لإبنها:
احرقتني لا تبكي يا محمدú ** ابوك نسى الحناء وحمúرة الخدú
وأبوه هنا هو “مسعود” الذي:
من قلة المصروف وكثرة الديúن** بكر مسافر فجر يوم الاثنيúن
وقت الوداع سلم وقال مودعú ** لا تحزني شاشقöي سنه وشارجعú

لكن عروسه لم تكن تعرف أن “مسعودها” الذي غادر شمالا باتجاه القبلة بعد أن أصبحت القبلة أكثر من وجهة دينية وجهة للخلاص من مهانة الفقر. لم تكن تعرف أن مسعود نهشته الذئاب و الحيوانات البرية. هكذا يختفي بعض من يغادرون باتجاه الصحراء.
فيما لايزال المغادرون بإتجاه البحر موجودون بدرجة ما تسمح لهم بنقل معاناتهم:
بحثت عن شغل في الدكا وميناء عصبú
وفي الطرق والمداوي وما وجدت الطلبú
شكيت لاخواني البلوه وطول التعبú
فقالوا البحر قلت البحر واساعيه

وعشت في البحر عام وخمسة عشر سنه
في مركب اجريكي احمر حازق الكبتنه
وسود الفحم جلدي مثلما المدخنه
وطفت كم يا بلوöد ارضها قاصيه

حين بدأت كتابة هذا الموضوع كنت أنوي كتابة شيء ما عن الأغنية الشعبية بوصفها حائط تدوين للحظات فارقة في حياة الشعوب. حائط تدوين قد يحوي كل ما يخطر على البال من معاني الفقد خيبات الأمل التهكم التذمر وحتى بعض الأحداث التاريخية. ولكي لا نعلق في ثنائية الغربة والفقد دعنا نتناسى ماكتبه الشاعر “سلطان الصريمي” عن مسعود وماكتبه مطهر الإرياني في أغنية “البالة” وتعالوا نستمع لهذا القبيلي الذي ضاق ذرعا بالحروب القبلية وسأم من كونه مجرد بندق يبصق طلقات الحقد بإتجاه الغرباء.
غربة اليمني لاتقتصر على مغادرة البلاد شمالا أو بإتجاه البحر جريا وراء الخلاص المادي إذ أن هناك من هم مغتربون وغريبون عن حياتهم رغم أنهم يعيشون في الداخل مغتربون يبحثون عن خلاص فردي يعتقهم من الارتهان لتقاليد وعادات المجموع. لöننصت لهذا القبيلي من قبيلة العوالق إذ ينشد في حسرة:
شدت خيول العوالق ليتني عولقي ** من عولق البحر لا يروي ولا يرتعي
يا ليت مانا قبيلي ليتني الا صبي ** باشدö رحلي وباسرح لي مع الاولي
يا ليت لي حصن في راس الجبل معتلي **يا ليت مولاه با يبيعه وانا باشتري

هكذا يتورط هذا القبيلي في غربته الخاصة في هذا المجتمع القبلي الذي يمتهن انسانيته وحياته القيمة في حروب أصبح يدرك أنها لا تخصه. سأم من هذا الوجود المكبل حد أن رأى خلاصه في التحول لأحدى العوالق هذه الكائنات الدقيقة التي تعيش في البحر دون أية التزامات تجاه القبيلة وحروبها التي لا تتوقف.

في الأغنية الشعبية اليمنية تقابلنا أنواع أخرى من التدوين أيضا يعبöر بعضها عن صراع طبقي يفصح عن نفسه على هيئة تهكم أخلاقي تسخر فيه أفراد الطبقات الفقيرة المشغولة برغيف العيش من انشغال الطبقات الأكثر ثراء بقصص الحب

قد يعجبك ايضا