زيارة سابقة

■ سهير السمان

 - صباح مرهق انتزع حقه في العودة بعد أن تخبط في أحلام طويلة تائهة لا ألوان فيها كفيلم سينمائي قديم وعدت عنوة معه أيضا بعد تجوال طويل في شوارع ذاك الزمن كثيرا
صباح مرهق انتزع حقه في العودة بعد أن تخبط في أحلام طويلة تائهة لا ألوان فيها كفيلم سينمائي قديم وعدت عنوة معه أيضا بعد تجوال طويل في شوارع ذاك الزمن كثيرا ما كنت أعتنق صلواتها في الماضي لكني ليلة أمس بحثت فيها عن طفلة مازالت تنتظرني لأكمل معها لعبتنا المعتادة عصر كل يوم وكأنها تنتظرني بعدما سرت طريقا طويلة الطريق تطول .. وتطول حيث سكنها القديم الذي كانت فيه قبل سنين وعندما تبين أمامي عادت فساتيني القديمة وأحذيتي في بلوغ نشوتها وعاد كل ما كان هنا ماتزال تلك الشجرة تمد أغصانها وأوراقها خارج سور الحوش ضوء نافذة واحدة فيه فقط وسط هذا الظلام وقفت أرن جرس الباب الخارجي عدة مرات لكن لا فائدة . وعندما استدرت لأعود سمعت صوتها يناديني حينها بدء أول خيط للصباح فخرجتú من المنزل وهي تقبض على خمس من الأحجار في كفيها وتقول: لقد جئت باكرا لننهي لعبتنا! كنت خائفة أن تسافري اليوم قبل أن ننهي تحدينا.
ضحكت للهجتها القوية لم تكن كذلك أبدا يبدو أنها تدربت على اللعبة جيدا كنت أفوز دائما عليها وتعود لتلعب من جديد حتى تحقق الفوز تفرح كثيرا بي عندما أجيء أنا وأسرتي من العاصمة إلى هنا لقضاء بعضا من الإجازة الصيفية في بيت جدي المجاور لهم كنت أراها بريئة جدا لا أصدقاء لها والدها العجوز يمنعها دائما من الخروج يحمöلها مسؤولية البيت وهي لم تتعد العاشرة من عمرها بعد يقسو عليها ويؤنبها في أغلب الأوقات تنتهز فرصة خروجه من البيت في العصر لتلعب قليلا بتلك الأحجار معي تنتقل مع كل حجر تقذف به وكأنه طائر يحملها معه تقول لي أثناء لعبها: أحسدك لأنك تخرجين دائما وتلعبين إلى غروب الشمس لا أحد يحملك عمل البيت لماذا لا يكون والدي مثل والديك تذهبين للمدرسة وتسافرون في الإجازة وتخرجين خارج المنزل بمنتهى الحرية دون أن تتعرضي للتأنيب والضرب!
أحس بحزن شديد لأجلها فهي محرومة من حياتها كنت أحبها فهي على الرغم من حالتها الصعبة كريمة جدا وحساسة تقدم لي دائما ما تقوم بطباخته فهي تتعلم يوميا الطبخ في ذلك الصباح قدمت لي الخبز مع الشاي الحليب كان طعمه ممتزجا بالطفولة بدأنا باللعب كان جسدها يتحرك بفرحة مع كل حجر تقذفه للأعلى تسابق الوقت حتى تكمل اللعبة قبل أن يأتي أبوها العجوز.. ويراها خارج المنزل فيهوي بعصاه على رأسها مرات عديدة أسال منه الدماء لقد كان قاسيا لم يكن يعلم أنه يدنس قداسة الأطفال يمنعهم من صلوات البداية مع الله فالعصا حرزه لتعليم أولاده الحياة قالت لي يوما أنها حاولت كسر تلك العصا لأن الشيطان مختبئ فيها تراه يطل منها كلما هوى بها عليها أو على أحد من إخوتها حتى أمها المريضة “بالمس” على حد تعبيرهم حين تنتابها حالة هستيرية يستعمل أبوها العصا ليسكتها كنت أسألها دائما … لماذا أمك صغيرة جدا في السن عن والدك فهو عجوز¿
لم تكن تستطع الإجابة عن هذا السؤال.. كانت تقول لي: إن أمي مجنونة وقد دخل بها جني فهي تصيح وتبكي وتثرثر مع نفسها وعندما تشتد عليها هذه الأعراض يضربها أبي بالعصا حتى يهدأ الجني بداخلها.
– ولماذا لا يأخذها للطبيب أفضل ¿
– لقد ذهبوا بها إلى ذلك الشيخ الذي في قريتنا فكان يكوي رأسها بالنار إلى أن تفقد وعيها ويقرأ عليها القرآن وينفخ في أذنيها. تصل أمي جثة محمولة بلا وعي.. تنام إلى اليوم الثاني وتصحو ووجهها ممتقع أصفر يقوم أبي عند الفجر يحلب لها من الشاة بعض الحليب ويقدمه لها يذهب بها إلى الحمام ليجبرها على الاغتسال وهي تصيح تخرج من الحمام وقد ارتدت عدة أثواب عليها وتغطي وجهها وتفرش السجادة وتصلي.
– تصلي وهي مغطية وجهها¿
– نعم.
– لماذا¿
– حتى لا يراها الجني.
– هل ما يزال داخلها حتى بعد أن أخذوها إلى الشيخ¿
– نعم يخرج ويعود لها ثانية… وثالثة .. تقذف الحجر هذه المرة ويسقط من يدها ويبدأ دوري في اللعبة تتابع حركاتي بإعجاب وتهمس لي : أنت خفيفة جدا تلعبين بكثرة فلديك وقتا كبيرا للتعلم.
أحس بالغرور لإطرائها لي وأحس بالحزن لأجلها. استمر في اللعب وهي تثرثر بتركيز على الأحجار. وتقول
– أحجارك جميلة من أين ألتقطها¿
– من صنعاء.. عندما ذهبنا منطقة جبلية تدعى شبام كوكبان فهناك أحجار جميلة من الجبال تجرفها السيول.
– هل تجلبين لي منها عندما تأتين في الزيارة القادمة¿
– سأترك لك هذه قبل أن اسافر.
– حقا.
– نعم…إنها لك
علت الفرحة وجهها… وكأن كنزا ستمتلكه.

قد يعجبك ايضا