القاهرة.. ليلة دمعت فيها العيون
محمد الغربي عمران
هي ساعات قضيتها بعد عودتي من مسقط لأغادر إلى القاهرة مساء. وضعت ما حملته من كتب ,وكان علي أن أحمل بعض إصدارتي وعدد من إصدارات المشهد السردي اليمني المتجدد إلى نقاد في مصر سيحضرون ملتقى القصة القصيرة جدا الذي سيعقد في مكتبة الإسكندرية من ثلاثة من ديسمبر وإلى الخامس منه, ومن تلك الإصدارات ما زودني بها كتابها وأخرى أبتعتها من مركز عبادي.
تغادر المصرية في الرابعة والربع قبيل الفجر.. رحلة مرهقة في هذا الوقت ,فلا أنا الذي نمت قبل الرحلة ولا أنا الذي أهنأ بنومي على الطائرة.. فعلى المسافر أن يكون في المطار قبيل الثانية بعد منتصف الليل.. أوضاع صنعاء مخيفة نهارا فما بالك بساعات بعيد منتصف الليل. الشوارع خالية.. عربات قليلة في الاتجاهات المختلفة .. الساعة الواحدة كنت في المطار, صالة المطار على غير عادتها في حركة نتيجة لوصول عدة رحلات ومغادرة أخرى.. كان أمامي وقت حتى تقلع رحلتي , تمنيت أن يستجيب لي الأنتر نت .. فتحت جهازي المحمول, حاولت لكنه أبى ,خدمات المطار رديئة.. وجوه كئيب, والطقس قارص. ففضلت أن أمارس هوايتي مراقبة وجوه الناس . أن أكتبها. يستهويني مراقبة الغريب منها.. صفوف مقاعد بلون رصاصي. رجل ضخم الجثة لفت انتباه من في الصالة , بمنظر شعره الطويل..وخروص أذنيه المتدلية , لم تكن تعنيه له نظراتهم أو همساتهم. ظل يتحدث لمن حولة بلغة خمنت أن تكون تركية أو إيطالية. تركت المخرص بعد أن أكملت وزن حقيبتي متجها إلى صالة المغادرة.
فتاة يبدو أنها عربية شمالية..أو إيرانية تحمل ملامح مريم العذراء.. زاد جمالها طرحة سوداء حول رأسها ووجهها.. عباءة سوداء لف به قدها الناحل, تحادث رجل أسمر يعتمر قبعة زنجبارية, لغة غير عربية يتحدثان بها, امرأة على مقعد متحرك إلى جوارهما, تنهض الفتاة لتجلب لهما يشربانه, تنظر بحنو إليهما تواصلا حديثها بنفس اللغة, حين أرتفع صوت المذياع الداخلي لصالة المطار يدعو الركاب المغادرين إلى جدة سرعة…. نهض الرجل الأسمر ونهضت الفتاة ثم احتضنت المرأة التي على المقعد المتحرك بحنان , لوحت للرجل دون أن تصافحه مودعة وقد أخذ بدفع المقعد نحو الداخل. بينما عادت الفتاة تجلس مع وحدتها كأن لا أحد حولها .
تلك المقاعد امتلأت بكائنات مغادرة في رحلات مختلفة البعض إلى القاهرة وآخرون على رحلة التركية .. ومجموعة على الأردنية.. يردد المكرفون نداءات متكررة لمتأخرين محتملين يحثهم الإسراع .
دوما ما نعيش لحظات استثنائية, فهاهي بعض مقاعد الطائرة وقد تسابق عليها من تسابق لنقف بين الكراسي طابور طويل حتى السلم بينما مضيفات الطائرة في جدل لإقناع من جلسوا على مقاعد ليست مقاعدهم.. تسعدني مثل تلك التجاوزات ومتابعة معالجة الأمر من قبل مضيفات حسنوات , يستمرء البعض البلادة والجلوس بالخطأ على بعض المقاعد ويتمنى أن يطول الجدال معهن.
حين وصلت إلى رقمي 23 Cكانت امرأة منقبة قد احتلته,أشرت عليها بكرتي بأنه مقعدي, بينما رجل وطفلان على المقاعد المقابلة.. بتر ذلك الرجل حديثي باستدعائها لتحمل أحد الأطفال على حجرها وتقعد جواره. كنت أود الاستمرار في مراقبة الزوجين وطفليهما لكن ذات الوجه المريمي لفت انتباهي جلوسها على مقعد ليس بالبعيد عن مقعدي.. أسعدني أن تكون على رحلتنا.. كنت أود مواصلة تأملي لها لكنه ملاك النوم وقد تحالف مع إرهاقي , نمت لأقل من ساعة حتى نبهتني إحدى المضيفات لفتح الطاولة لتضع وجبة خفيفة, بالفعل أخذت أتناول ما قدم لي. أنهض كي أرى المريمية تجلس جوار أحدهم لكنها تبدو في عالم آخر.
أعاود الجلوس على مقعدي أتابع من حولي الأطفال أخذوا بالصراخ في المقاعد المجاورة.. أقلب مجلة الشركة. أعاود النعاس رغم ضجيج ما حولي.
أصحو من جديد على صوت المذياع الداخلي ينبه إلى ضرورة إعادة المقاعد إلى وضعها الرأسي. وربط الأحزمة, التزمت لتحط الطائرة على مدرج المطار, نهضت مع من نهض بعد أن توقفت محركات الطائرة لألمح المريمية دون غطاء رأس أسود, لتبدو بشعر قصير وعنق رشيق, زادت مساحة بشرتها البيضاء اللبنية وقد لبست فوطة سماوي , وقميص بنصف أكمام, تلك الرشاقة جعلت حركاتها كحركات راهبة دون سوادها ,ونظراتها لما حولها هي تلك النظرات الولهاء , تجر حقيبة صغيرة حين تحركنا بين الكراسي لنخرج, في حافلة المطار وقفت بين الزحام لا يعنيها ما حولها تتحرك بعفوية, سرنا في ممرات طويلة..سلالم ,وقفت أمام موظفي الجوازات صفوف طويلة, بحثت عنها بين تلك الوجوه.. لا أحد. لحظتها جزمت بأنها في رحلة ترانزيت إلى مدينة أخرى. كم تلك الهالة التي تمنح بعض الأروح تميزها جميلة.
كان مؤشر الساعة يشير إلى السادسة حين هبطت بنا الطائرة