العناق الحزين في رواية» إنه البحر«للروائي القدير باعامر
• محمد الغربي عمران
باعامر المسكون بالبحر من خلال الرواية الأولى (الصمصام) ثم الثانية (المكلا) ثم آخر رواياته (أنه البحر) الصادرة عن دار طوى في لندن,2013.
ودوما ما أجد نفسي منحازا إلى أعمال هذا الأديب الكبير, تلك الأعمال المشغولة بإنسان ومجتمع البحر. بأساطير الجزر البعيدة, بعادات وتقاليد مجتمع الشواطئ, ولذلك أجد في قراءة أعماله متعة كبيرة حين أجد نفسي في بيئة هي عني مجهولة, بلهجاتها وثقافتها بأفراحها وأحزانها, بآمالها وأحاسيسها. وأجزم بأن باعامر وتلك العلاقة بينه وبين البحر وهو إبن قصيعر تلك القرية البحرية التي أحتضنته طفلا إلا أن الغريب في الأمر أن باعامر لم يركب البحر يوما قال لي , فهل عشقه للبحر وتلك المناجاة الدائمة في أدبه يعني شيئا من التعويض. أو أنه جنون وتفرد المبدع.
في الرواية التي بين أيدينا (أنه البحر) يتجاوز باعامر أعماله الروائية السابقة. فمن الناحية الموضوعية يتشظى الكاتب في معالجاته لأكثر من موضع منها الاجتماعي والاقتصادي مستخدما خبرته في تقديم كل ذلك للقرائي المتعطش لمعرفة بيئة مجتمع البحر, حيث ينطق في أحداث الرواية من مجتمع سواحل حضرموت لتمتد جغرافية مكان أحداث الرواية إلى سواحل عمان من خلال إبحار السفينة الفرج وربانها السحيم, ومن عمان إلى عدن وجزر عبد الكوري وسقطرى ولامو وشيلة وحتى زنجبار في شرق افريقيا.
إذا يستطيع القارئ أن يرحل عبر رواية أنه البحر وبرفقته النواخذة السحيم ومن معه من البحارة ليعيش وهم في أعالي البحار ويعايش مجتمعا يؤمن بالأساطير ويمارس طقوسا اكتسبها عبر مئات السنين وهو يصارع هذا الكائن الخرافي الذي يمده بأسباب الحياة وفي نفس الوقت ينتزع منه ما يريد.
وأنه البحر تبهر القارئ بثراء مفرداتها البحرية إبتداء من أدوات البحارة إلى المسميات الكثيرة على ظهر السفينة مرورا بأسماء الأماكن والأدوات اليومية . وهذا ما يتوقع من أديب ومثقف كبير هو الروائيين باعامر الذي له تجربته الحياتية الثرية. التي تذكرني بثراء حياة الروائيون الكبار حنا مينة الذي أتصف أدبه بأدب البحر ومحمد شكري صاحب الخبز الحافي تلك الرواية التي أتكأ في كتابتها شكري على تجربته الحياتية وهو إبن الريف الذي فر وعائلته هربا من الجوع. وإبراهيم الكوني روائي الصحراء.
ومن بين روائيي اليمن تفرد باعامر بأدب البحر بل لا أبالغ إن قلت هو وحده من كرس أدبه لثقافة مجتمع البحر. وقد سطر لنا في ثلاث روايات تلك العوالم البعيدة وذلك الإنسان الذي يعيش على البحر ومن البحر.
لم تكن الفرج هي السفينة الوحيدة التي حملت أبطال هذه الرواية بل هناك السعد والجلبوت والنور.
وهاهو إنسان البحر “السحيم” و”حسناء” يضيئون أرواحنا بملامحهم..ونسمع أنين ضحكاتهم.ورنين مفرداتهم الفريدة.. وقد أثث بها الكاتب صفحات روايته ليحملنا إلى تلك العوالم الغامضة: القطمر, القلمي, الخن,الصرنج, السكوتي,العبرية,المتوهين, ماخر, الموبرة, التجلوب, شيرون, الكنبار, الجزوة, سبار, الراج, دحا ,العسوة, غبة, مضبى, البخاخير, الغسة, روبيات, الساميات, الزناقل, الورينبو.ونستنشق روائحهم, أطعمتهم ونسمع أهازيجهم. ونحس بألامهم وأمالهم.
وكذلك تحملنا تلك السفن إلى مناطق على سواحل جنوب جزيرة العرب وحتى أعالي بحر العرب مثل: قلنسية ,رأس فرتوت, سيحوت, شوعب, حافون, قفزان, حنا, رأس رسيوت, رأس سدح, رأس حساكل, رأس نوس, نشطون. وغيرها من السواحل والجزر.
إنه البحر عالم يصطفيه باعامر لأدبه الذي يجوب بنا عبر خيله الخصب تلك العوالم معتمدا على قدرته في الإمساك بدفة السرد وبأسلوب السهل الممتنع, يسمعنا نهامة النواخذة.
رواية تفردت بفنيات وتقنيات عالية.. وبتلك الأحداث المشوقة. وعوالم من السحر والغموض.
لم يكن لي إلا أن أقرأ (أنه البحر) مرتين حتى أستبطن ما يريده الكاتب منا كقراء وقد أحسست أثناء القراءة بأنه يدفعني لمشاركته من خلال تلك الفجوات الإبداعية التي يتركها بين حدث وحدث. مثل ذلك الصراع والخوف الذي كان يدور بين (حسناء ) وصديقتها حول تلك الأحلام التي تأتيها في منامها, وأيضا ما واجهه السحيم من إغراءات من فتيات تلك السواحل التي زارها وهو المتيم بحسناء.
ومن خلال تلك الفجوات الإبداعية شاركت الكاتب بتوقعاتي واستباقي لأحداث افترضت حدوثها مستقبلا لأخفق في بعضها وأصيب في أخرى.
الكاتب يمتلك القدرة على وصف الشخصيات ومن ذلك تقديم كل شخصية بطبيعة مختلفة عما حوله, إضافة إلى شخصيات الشاطئ ذلك المجتمع الذي يودع البحارة لينتظر شهورا طول من الأمل والخوف.
لتأتي الخاتمة وكما هو باعامر في جل أعماله يميل إلى أن النهايات السعيدة. المطعمة بالحزن. وذلك الحزن.