“مريض الجذام الميت الحي”

د. ياسين عبدالعليم القباطي


“لن أعود إلى آنس سأبقى هنا في تعز” قلت للدكتور السويدي “أنا لا أستطيع العيش مع أناس يخافون من المرض وبلادي بعيدة لا يوجد عندنا مواصلات نركب إلى ذمار ومن هناك نسير إلى حمام علي طوال اليوم نسير” رد المترجم عبدالله بدر ” بمجرد أخذك العلاج يصير مرضك غير معد وبعد أخذ العلاج ستعود إلى ممارسة حياتك مثل بقية أهل القرية ”
الأطباء حريصون على ألا يعزل المرضى وأن لا يتجمعون في منطقة واحدة ولا يعرف الأطباء ما نقاسيه من معاناة العزل والإبعاد ونفور المجتمع منا وما نسمعه من تنبيز وتجريح وإهانات لنا ولأهلنا نعاقب كأننا سعينا للإصابة بالمرض فحملونا ذنب الإصابة به إضافة إلى ما نقاسيه من آلام المرض نفسه غير أن الطبيب لم يقدر ذلك فقال ” سوف أذهب معك إلى هناك لإقناعهم ” فقلت له ” لا يوجد عندنا طريق للسيارة وستمشي يوما كاملا في مناطق خطيرة ” واستمر حوارنا طويلا حتى أدرك الملل المترجم فأقنع الطبيب بأنه لا فائدة من إقناعي بالعودة إلى آنس وكأنه يعرف ما يدور في رأسي وهو الخوف من المجتمع ومن مقابلة الأصحاء ومواجهة أخي بغلطتي. أصريت على البقاء في تعز والعيش بعيدا عن أهل القرية الذي لا يوجد بينهم مصاب بالجذام غيري وأخي الذي لم يكتشفوه بعد وجدت الراحة بالبقاء مع زملاء مرضى لا أخاف منهم ولا يخافون مني. قرر لي الطبيب الرقود في الحصب لمدة شهرين وبعدها يجب أن أخرج وأعود إلى آنس .
رقدت في قسم الجذام وكان أشد ما يؤلمني هو الصرير في عظامي يزورني في المساء يحرمني النوم يؤرقني. وبعد أسبوع حضر الطبيب مرة أخرى ليفحصني وأنا نائم في سريري ونظر إلى عيوني ووجد فيها صفارا وأخذ يقول أحمد مش تمام – أحمد مش تمام- وقرر لي حبوب فيتامينات حمراء ستين حبة كان فيها الشفاء من الصرير والصفار كنت أشرب باليوم ثلاث مرات بعد كل وجبة حبة وكلما يمر يوم تتحسن صحتي كان كل شيء مجانا لا ندفع شيئا مقابل كل خدمات الدواء والغذاء .
استمريت مختفيا في المعزل المجهول الذي يسمى مستشفى أو قسم الجذام مبتعدا بنفسي عن أهلي وكان كلما حضر الطبيب للمعاينة أحاول التهرب منه حتى لا يقرر لي خروج كان العلاج يصرف يوميا بواسطة محمد صالح العولقي حبة دابسون يوميا والفيتامين فقط للمرضى الذين قرر لهم الطبيب. أما الأكل فيصل إلينا يوميا وقت الظهر جاهزا ساخنا من المستشفى الجمهوري والخبز يأتي به الصباح أحد المتعهدين مع الحكومة والشاي يتم تجهيزه على نار الحطب في المطبخ التابع للقسم كان الأكل متوفرا ولذيذا وكنا نأكل حتى نشبع لحم بقري دجاج وسمك وأرز وطبيخ خضار مشكل للغداء والإفطار كان جبن وشاهي وأحيانا بقوليات فول أو فاصوليا. والعشاء بيض وجبن وفول وفاصوليا.
مرت سنة وأنا مختفي من الأهل في تعز أسمع قصصا غريبة فهذا محمد باجرش من حضرموت من وادي دوعن أتى حيث يبعد المريض من قريته بعيدا عن داره وأهله بمجرد اكتشاف إصابته بالجذام ليعيش خارج القرية في كوخ صغير يسمى بيت الجذام يضع إناءه خارج الكوخ ويختفي داخله فيحضر له أهل القرية الأكل والشراب يضعونه في إناء وضع بعيدا عن الكوخ المسمى بيت الجذام لا يشاهد من يحضر الطعام ولا يشاهدوه بيت الجذام كوخ صغير خارج القرى في وادي دوعن به يعزل مرضى الجذام تمهيدا لنقلهم إلى معزل السدد خارج مدينة المكلا . وهذا علي النجري من حجة كان يعيش في كهف في الجبل بعد أن أكتشف الناس إصابته بالجذام فسجنوه في الجبل لا يستطيع المشي في الحقول بعد زراعتها وبعد المطر يعتقد الناس أن جراثيم الجذام ستخرج من أقدامه وتدخل في السبول لتنتقل إليهم فيصابون بالجذام أما إذا شاهدوا ضوءا من كهفه ليلا فتطلق عليه الرصاص حتى يطفي نوره فقد يصل إليه تائه فيصاب بالجذام عزلوه أهله أخوانه وأولاده في الجبل لا يشهد أحدا ولا يقترب منه أحد فإذا احتاج طعاما يضع إناء بعيدا من كوخه على قارعة الطريق ليصب فيه المتطوعون بقايا أكلهم. وهذه الحجة مريم من الأبعوس يافع ترقد في قسم النساء طردت من قريتها لتعيش مبعدة في تعز تزوج رجلها غيرها وتصاب بنكسة وآلام شديدة كلما سمعت أن زوجها قد عاد من مهجره في السعودية ليبقى مع ضرتها دون أن يزورها .
وذلك علي المطري من صنعاء طرد من قريته لأنه غامر ودخل الجامع ليصلي مع الناس وهو مصاب بالجذام . وهذا مصلح العولقي من شبوة طرد من قريته هجره أخوانه وأولاده ففر إلى جبل بني فيه كوخ ليعيش فيه ثم فر إلى تعز ليموت هنا مع مرضى الجذام الذين تجمعوا في تعز أحياء جسديا ميتون اجتماعيا. تجمع المصابون بالجذام من جميع أنحاء اليمن ليعيشوا في مجتمع متجانس في حصب تعز معظمهم أصحاء شفيوا من الجذام وبقى عليهم علامات التشوه فلا يستطيعون العودة إلى قراهم فالوصمة تلاحقهم تحقير وتنبيز وإهانات ففضلوا الابتعاد عن قراهم والبقاء هنا يقطعون الحجار من الجبل المجاور ويبيعونها لمدينة تعز المجاورة التي أنتعش البناء فيها

قد يعجبك ايضا