رحلة إلى (كوبا) أرض الحب والثورة

 خالد عبد الحليم العبسي

اعتدت أن أتمشى في المساء بجوار (المالكون) وهناك كنت أشعر دوما أن طقس هافانا يمشي في الأرض مرحا يزم بين شفتيه ويتسلى بالصفير وهو في أحسن مزاجاته.
حرصت أن ألتقي بقدوم الليل في (المالكون). قصدت المكان ذات مرة لأجل ذلك فقط. بدأت الشمس بالغروب وأنا جالس على حافة (المالكون) وشرع لون الغروب يكسو بحمرة شفقية ساحرة الأفق الممتد وزرقة البحرö والبنايات التي تقف على حافة المدينة ووجوه وبشرات أناس مختلفي الألوان.
انسلت بقايا النهار وبدأت الأنوار بالاشتعال شيئا فشيئا وحينما لم يبق من النهار شيء صار قبالة البحر خط مقعر من الضوء وفي نهاية الضوء برزت قلعة مورو تحفة تتلاعب بها أضواؤها لتبدو كجمانة أسطورية يتأملها البحر وفي وسط القلعة انتصبت منارة قلعة (مورو) مضيئة كشمعة عملاقة تمد على صفحة البحر حزمة من الضوء بينها وبين الناظرين إليها ولكنها تغرق قبل أن تصل إلى أحد. وللحظات خيل إلي أني في لوحة رسام وأيقظ المشهد من عمق ذاكرتي وصفا جميلا “وكانت تعرف دائما كيف تختار أسطورة تضيف على الليل معنى وتزيده جمالا وروعة وبهاء”. إنها لأحدöهم يتذكر جدته وحكاياتها.
مثل أبناءö هافانا صرت في (المالكون) وبمواجهة البحر أجد ما لا يمكنني شرحه وفي ليلة أخرى غير قمراء اتحد فيها البحر بلون الظلام -كانت لي ذكرى. أطلت الجلوس فأحسست بوجه آخر للبحر بدأت أسمع صوت الأمواج القادمة (ـشششـ ـششـ) كأن كل موجة تنصب سبابة أمام شفتيها تطالب بالهدوء… البحر العظيم أرسلها من أعماقه معلما ندماءه الصمت ومبلغا إياهم أنه لا يحاور أحدا إلا حينما يكون صامتا. أحسست بذلك السحرö. صارت المشاعر تتراقص بين صدغي كضوء شمعة تلاعبها النسائم… ما أعجز الإنسان أحيانا عن الكلام.
الفن إحدى اللغات التي خاطبت بها الثورة الحمراء هذا الشعب ولذلك تطفح مدن كوبا بالغناء الموسيقى الرقص الرسم النحت.
فرöق الموسيقى تحتل أركان الشوارع الكثيرةö الزوار وتجاور المقاهي المزدحمة وتستغöل المساحات المفتوحة بجانب المعالم السياحية أو الحدائق الجميلة. ربما كانت تقيهم من حرارة الشمس مظلة وربما اختاروا ظل شجرة كبيرة وكثير ممن يحيي موسيقى الشوارع كهول ما زالت قلوبهم تنبض بالأنغام وعلى قارعة الطريق أمام الفرقة صحن على المستمعين أن يرموا فيه شيئا من النقود وربما تطفل أحد أولئك الموسيقيين ليمد قبعته طالبا وضع النقود فيها وربما كان لبعض السياح رغبة في التجربة فيدفع مöن أجل أن يجرöب الغناء معهم.
تشارك في أغنياتهم الطبول بأنواعها كبيرة وصغيرة ومزدوجة وبطلها دائما الغيتار. أما آلات صنعö الإيقاع فكثيرة لا تحصى ولعل أشهرها آلة بسيطة هي عبارة عن قطعتين متشابهتين تمسöك كل يد بواحدة منها الآلة مجوفة ويملأ جوفها مادة كالحصى وعندما تهز باليد تصنع للأغاني إيقاعا مشوشا وثمة آلات موسيقية أخرى كثيرة يبدو أن حصرها يلزم بمعرفة غير قليلة بعلم الموسيقى.
وعندما يغنون يتذكرون الحرية مجددا. ترنيمة الحب لجيفارا سمعتها في كلö مكان من شرفات النوافذ وفي الزقاقات وفي الحافلات بأصوات وحيدة وأغنيات جماعية بأصوات رجالية تؤديها كأنها تحيي الثورة وبأصوات نسائية رخيمة تنتحب باكية وفي كلö مرة كان لها وقع مختلف واستطعت أن أفهم من أحدهم أن كلمات الأغنية تقول:
“من ليالي التاريخ تعلمنا أن نحبك
وبشموسö شجاعتك قدت روحك إلى حصارö الموت
عمق روحöك الشفافةö كان جليا لنا
أنت قائدنا يا تشي جيفارا
وسنظل نبكي كما بكينا طويلا معك ومع فيديل”.
* * *
الجدران الكبيرة الصماء لا بد أن ينطقها الرسم شيئا ما وقل أن ينجو حائط كبير من ريشات الرسامين ليصنعوا منه لوحة جدارية عملاقة فالرسم على الجدار في كوبا يمكن عده فنا مستقلا.
في أطراف الساحات القديمة وعلى جنبات الشوارع التي يفضلها السياح وجوار الحدائق الجميلة وعلى الأرصفة المحاطة بالأشجار -يظهر الرسامون بعدة الرسم. يرسمون لوحات زيتية تذكارية تلتقط مشاهد من الحياة الكوبية لوحة لسيارة كلاسيكية تجوب شوارع العاصمة وأخرى لسيارة واقفة تمر بجانبها امرأة سوداء وثالثة لسيارة واقفة بجانب بناية ذات واجهة تراثية تلك الأقواس التي تحملها الأعمدة لوحات للمباني التاريخية في العاصمة لوحات لأزقöة هافانا القديمة لوحات لقلعة مورو جوار الشاطئ المقعر لوحات غامضة لست أدري إلى أي مدارس الفن تنتمي.
رأيت بناية مثلثة الشكل تقع بين تقاطع شارعين غير متعامدين وتنشأ بينهما زاوية حادة رسمت أمواج بحر هائ

قد يعجبك ايضا