خواطر من الصين

علي العمراني


 - ظلت أفكار كونفوشيوس محل تقدير في الصين إلى درجة القداسة لأكثر من ألفي عام لكن الكثير منها أصبح محل تساؤل واتهمت بالجمود عندما نهض الغرب وترك الصين خلفه ثم غزاها وأهانها في عقر دارها..

ظلت أفكار كونفوشيوس محل تقدير في الصين إلى درجة القداسة لأكثر من ألفي عام لكن الكثير منها أصبح محل تساؤل واتهمت بالجمود عندما نهض الغرب وترك الصين خلفه ثم غزاها وأهانها في عقر دارها..
قال لاستر ثاروا : في كتابه ( Head to Head ) أن الصين كانت متفوقة في القرن السادس عشر ومتقدمة على الغرب في مجالات عدة منها صناعة الورق والحديد.. ومع ذلك فقد قامت الثورة الصناعية والنهضة في أوروبا وليس في الصين بسبب الإصلاح الديني العميق الذي قام به مارتن لوثر حيث أنشأ مذهب البروتستانتية وحرره من كثير من القيود المسيحية التقليدية التي تعيق النهوض والتقدم ..
وقال : إن ما جعل الصين تفقد زمام المبادرة والقيادة هو عقيدتها الكونفوشيوسية وعدم القدرة على التكيف والمواءمة بين الإيديولوجيا ومستجدات التكنولوجيا ..
ومع ذلك يبدو إن دينغ زهاو بينغ الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني الحاكم فطن إلى ذلك ولم يكرر أخطاء أسلافه قبل قرون وقرر أن لا يكون مجرد شيوعي طقوسي مثل نظرائه الروس الذين تأخروا في الإصلاح ثم فشلوا عندما حاولوا متأخرين وانهار الاتحاد السوفياتي أما دينغ فقد كان ( pragmatic ) ذرائعيا مثل خصومه أو أصدقائه اللدودين الأميركيين ويختار الفكرة المناسبة والوقت المناسب وأقنع الحزب الشيوعي الصيني وإن كان بصعوبة بالغة وعناء كبير بضرورة الخروج عن بعض تعاليم ماركس وأفكار الرفيق ماو وتبنى بعض أفكار الرأسمالية وممارساتها في السوق وترك ما لا تحتاجه بلاده مما رأى أنه ترف غربي في الوقت الحاضر وأبقى على حزب الطبقة العاملة حاكما ومسؤولا أمام التاريخ في بناء أمة كبيرة وعظيمة جديرة بالاحترام ..
بعد ثلاثين عاما من بداية مشروع الإصلاح في الصين الذي دشنه دينج زهاو بينغ عام 1978م سئöل خ?ل?ف?ه زيمين في 2007م وهو يزور الولايات المتحدة عن الديمقراطية وأجاب : الآن بناء الأقتصاد.. وبعدين نشوف ما هو الأصلح.
كان الغربيون يصفون الصين في الستينات بأنها ريف العالم … ويوجد الآن في مدينة شانغهاي وحدها أكثر من أربعة آلاف ناطحة سحاب أكثر عددا من مجموع ناطحات السحاب في العالم كله ..
يتحدث الصينيون الآن عن الإصلاح والانفتاح ولكن بمفهوم ومنظور صيني.. وقبل أي شيء فإن الصينيين أمة علم ومعرفة وثقافة ولعل حديث اطلبوا العلم ولو في الصين ذو دلالة على مكانة العلم عند أولئك القوم ..
كان ماو تسي تونج يقاتل في الثلاثينات والأربعينات وينهزم وينسحب ويفقد ملايين من رفاقه قتلى وموتى ولم يبق معه إلا نسبة بسيطة منهم وعاش في الأدغال والجبال لكنه لم ينقطع عن القراءة وكان يحرص أن تأتيه كتب الشعر والفلسفة والتاريخ إلى الكهوف.. وعندما انتصر ووحد الصين قام المزارع البسيط المثقف الثائر ماو تسي تونغ يخطب في الميدان الأوسع في العالم تيان آن مöن أمام قصر الإمبراطور الضخم عام 1949م وقال : إن الصين اليوم تقف على قدميها وستبدأ خطوتها الأولى منذ اليوم ..!
يقول كاتب المستقبليات الأميركي ألفين توفلر في كتابه ( Power Shift) إن كتابه ( The Third Wave) الذي ألفه في عام 1980 ترجم منه إلى اللغة الصينية ستون مليون نسخة بمجرد نزوله إلى السوق و أمر الأمين العام للحزب الشيوعي بينغ بتوزيعه على أعضاء الحزب وكان بمثابة ( bible ) إنجيل للحزب الشيوعي الصيني..! بالمقابل لم يترج?م أي من كتب ذلك المفكر الخطير إلى العربية..!
لا يزال كونفوشيوس محل تقدير كبير في الصين ويضرب به المثل في الحكمة وحب العلم والتواضع.. وإليه تنسب المقولة الشهيرة : إذا صادفت ثلاثة أشخاص فإن أحدهم على الأقل سيكون أستاذا لي.. وقطعا سأتعلم منه.. تذكرت هنا مقولة أحد ملوك العرب الذي كان يظن بأن الشمس لم تطلع على من هو أعلم منه… ونسöب?ت إليه المقولة الشهيرة : قبح الله ملكا يدخل عليه من هو أعلم منه.. وربما لم يكن يعلم رحمه الله مثل كثير منا اليوم بأنه إذا علم شيئا فقد غابت عنه أشياء .. بل لعله لم يكن يدرك مدى جهله بأبجديات متطلبات وظيفته كملك ورجل دولة في عصر مختلف عن العصور القديمة التي أجاد شيئا من علومها..
عندما كنت أجلس إلى الصينيين وأفكر في نجاحاتهم واستحضر أحوال بلدي أشعر بمرارة ولكن لعلها ممزوجة بإصرار وأمل في تغيير الحال مثلما حصل في بلدان أخرى وإذا أخفق جيلنا فسيأتي جيل آخر لن يكرر أخطاءنا وسينجح لكن لا بد أن نترك للأجيال القادمة بلدا موحد الكيان ليس مجرد وحدة جغر

قد يعجبك ايضا