الثقافة هي جوهر الوعي الجمعي وأساس الثبات أمام تقلبات السياسة، ومواجهة دعوات الاستسلام تبدأ من تفكيكه ثقافيًا، باعتباره انحرافًا عن الثوابت الوطنية لا مجرد خيار سياسي. فحين تُختزل فلسطين في معادلات وشروط الاستسلام، تُغتال الذاكرة، ويُقنّن التفريط. والمثقف الحقّ هو من يزرع الوعي الرافض، لا من يُساق في ركاب التبرير، لأنه أول من يقاوم وآخر من ينكسر. ولذا، فإن مشروع المواجهة لا يبدأ بالمواجهة السياسية، بل بصناعة وعيٍ لا يُدجَّن، وهو وعي لا تصوغه السلطة أو الفصيل والحزب، بل ينبع من تربة الثقافة الإسلامية والوطنية، التي ترى فلسطين حقاً لا تفريط فيه، وترى في الاستسلام سقوطًا لا يُغتفر، لا يُقاوم إلا بثقافة الثبات القيمي. حين نفكك دلالة «ثقَّف» لنجدها تعني التعليم والتهذيب والتقويم، ندرك أن الثقافة ليست تراكماً معلوماتيًا بقدر ما هي تشكيلٌ واعٍ للعقل والوجدان، وصياغة للرؤية والسلوك.
في هذا السياق، يُصبح المثقف روحاً حية في جسد الأمة، لا موظفًا في بيروقراطية المعرفة، ولا أداة في يد السلطة أو الفصيل والحزب. إنه نسيج من الوعي المتقد، والحس الوطني، والإدراك الحضاري، لذلك فإن «صناعته» ليست ترفاً بل ضرورة، والإعلام إحدى ركائزها، بينما تظل اللغة أداة التشكيل الأعمق لهذا البناء العقلي. ومن أجل التحرر من احتكار السلطة في رسم صورة المثقف، يلزم تنويع البيئات والمؤسسات الراعية له، لتكون الثقافة مشروعًا وطنيًا عابرًا للسلطات والفصائلية، حاميًا للهوية، ومقاومًا للهزيمة.
فالمثقف، كما قيل، أول من يقاوم وآخر من ينكسر. ولا تنبع مقاومته من شعارات بل من عمق انتمائه للمقدس والوطني، كما تتجلى في الثقافة الإسلامية، بانسجامها الفطري ورفضها للظلم، وفي الثقافة الوطنية، التي تزرع جذور الوعي المقاوم. ومن هذا التلاحم، تولد «الخصوصية الفلسطينية الغزية» التي لا تُروّض، ولا تركع. لا يمكن مجابهة مشاريع الاستسلام، إلا بإعادة إنتاج الوعي بحقيقتها، لا كسلوك فقط بل كمشروع اختراق. والسياسة، وإن كانت فن إدارة الحياة، فإنها حين تفلت من قبضة الوعي، تصبح ذراعاً للخذلان. أما الثقافة فهي الذاكرة الحارسة، والوعي الذي لا يتبدل بتبدل الأنظمة، لذلك تتفوق على السياسة وتكشف زيفها، وتعيد تأويلها بما يخدم الثوابت. ومن هنا، تنشأ مفاهيم كـ«ثقافة القرار» و«ثقافة الشهادة»، وتُفضح مفاهيم الاستسلام المقنعة بعباءة «الضرورة السياسية».
في فلسطين، تُصارع «ثقافة الثبات» موجات السياسة المتغيرة، وتتمسك بالمقدس كجزء من الهوية، لا ورقة تفاوض. ومن هنا يتجلى الفرق بين رؤية تتلو قوله تعالى: «ولا تيأسوا من روح الله» في كل سياق، وبين سياسات تقبل بالتفريط وتُغلفه بمنطق الممكن. فالثقافة تُحصن الوعي من التزييف، وترفض تحويل الخيانة إلى وجهة نظر، أو الاستسلام إلى واقعية.
إن مواجهة مشاريع الاستسلام ليست رفضًا لحالة، بل مقاومة لمنظومة اختراق متكاملة، تبدأ من المصطلح وتنتهي بتصفية الوعي. لذا، لا بد أن تتحول المواجهة من ترف نخبوي إلى تيار جماهيري، وأن تتصدر الثقافة المشهد، لا بوصفها تابعًا للسياسة والإعلام، بل قائدًا له.
فالصراع هنا ليس على حدود، بل على الذاكرة والهوية والمصير، و«ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب»، والوعي، في هذا كله، هو أول الجبهات.
*كاتب فلسطيني