البريكان .. القصيدة المدوية في صمتها
عبد الرحمن عبدالخالق
عبد الرحمن عبدالخالق –
? كتبت ذات مناسبة عن الشاعر العراقي الكبير.. الشاعر الذي رغم تعملقه على صعيد الإبداع الشعري إلا أن مخاصمته للمؤسسات الرسمية القائمة على النفاق الشخصي والسياسي في العراق كما هو في بلدان كثيرة وبالذات تلك التي تتحكم فيها النزعات الإيديولوجية والسياسية والفئوية ولا تحتكم لقانون جعله يعيش على الهامش مفضلا أن يعيش مع موهبته الشعرية الفذة بصمت العاشق تاركا للزمن أمر إنصافه.. وقلت فيما كتبته إن أول معرفة لي بالشاعر البريكان تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي أثناء فترة الدراسة الجامعية في موسكو عندما اقرأني صديق عراقي نماذج من شعره فأذهلني ما قرأت كما أذهلتني سيرته.
وها أنا أعود له إليه أعود للشاعر محمود البريكان والعود أحمد كما يقال.. وعودتي إليه سببه الصديق العراقي نفسه الذي لم تتحقق أمنيته في العودة إلى محبوبته العراق كما كان يحب أن يقول دائما فأختار الشتات وطنا له مثله مثل آلاف المثقفين العراقيين كان لقاؤنا عبر النت. أخذتنا الذكريات الجميلة إلى الحديث عن وضعه ووضع زملاء عراقيين مشتركين وإلى الشاعر الكبير سعدي يوسف والشاعر الكبير عبد الكريم كاصد وقد عاشا شطرا من حياتهما بعدن تغنيا بها وتغنت بهما وللشاعر كاصد ديوان كامل فيها عدن المكان والبطل الديوان هو (وردة البيكاجي) والبيكاجي كان سكن كاصد ومجموعة من زملائه العراقيين (ركض البيكاجي.. رنت أجراس الخلخال.. عثر البيكاجي.. والتم جميع الأطفال) وتواصل حديثنا ليعيدنا إلى محمود البريكان وديوانه المنشور وما كتب عنه.
? إن ما شدني للبريكان – حقا – هو سطوة اسمه رغم إيثاره الصمت والإنزواء ومحاولات البعض تهميشه وتغييبه. واللافت – في الأمر – حضوره الشعري رغم عزوفه عـــن النشر, وعــن المشاركة في أي مهــرجان أو فعالية أدبية, حتى أنه رفض يومـــا فتح باب منزلـــه لاستقبال وفــد مــن الأدباء العرب, قدموا إلى البصرة من بغداد لزيارته.
? من المعلوم أن سطوة اسم البريكان وسطوعه لم تقف خلفها سلطة من أي نوع غير سلطة الإبداع والإجادة معززة بالصدق الفني والأخلاقي فقد اختار الصمت بل الانزواء هروبا من مداهنة الحاكم والواقع القائم عليه. كان البريكان قد اختار أيضا الانحياز للقصيدة الحديثة فكتبها باقتدار مما جعله في الصفوف المتقدمة لروادها السياب والبياتي وبلند الحيدري ورشيد ياسين وعبد الرزاق عبد الواحد وغيرهم.
? الشعر عند البريكان كما قال في لقاء يتيم أو في واحد من لقائين كان أجري معه في بغداد عام 1969م: “إن الشعر فن لا يقبل التسخير ولا يحيا مع الحذلقة ليس الشعر وسيلة لتحقيق إي غرض مباشر ولا طريقة للتنفيس عن عواطف فجة ومن ثم فهو لا يخضع للتنظيم الخارجي. وقلما يعكس رغبات الشاعر اليومية. لأن منطقته منطقة ألذات العميقة فالشعر هو أبن النزوع الإنساني وموضوعه الأساس تجربة الوجود بكل شمولها. وهو تمثل خاص لواقع التغير في الزمن وقلق المصير والتأرجح بين الراهن والمنشود) وهو موقف أهتدى به طوال مشواره الأدبي ورأى في بهرجة المهرجانات الأدبية وبذخها هزيمة للشعراء وعبر عن ذلك عندما وقف أمــام تمثال (بلدياته) الشاعر البصراوي العربي الكبير بدر شاكر السياب عام 1971م إذ قال: (إن القضايا الأدبية لا تجد لها مكانا فــي مهـــــرجانات الأضواء البراقة والقاعات الباذخة وإن هــــذه الأمكنة بالذات هــي التي هـــزم فيها الشعراء ويهـــزمون, فقـــد مجدت أسماءهـــــم, ودفعت رسالاتهم ناقصة, بأن حولوا إلى أوثان, وبقـــي الحقد والشر والفــزع وكــل شيء قبيح, قائما في الأرض, كما كان ملونا كل شيء بألوانه).
? يقال إن للبريكان من الشعر ما يربو – في حالة طبع شعره- على عشرة دواوين, فضلا عن العديد من البحوث والدراسات – تحديدا – في المجال التربوي الــذي اشتغل فيه معظم حياته, حيث تقاعد عن العمـل في بداية التسعينيات وهو محاضر في معهد المعلمين في البصرة, كما له إسهامات في مجال المـوسيقى الكلاسيكية إذ كان مولعا بها.
? أسقط البريكان بمواقفه وآرائه عــن سؤال الصمـــــت مشروعيته, وعـــن الاعتزال مرجعيته, فهو لم يصمت إلا ليبدع, وإن اعتزل فقد اعتزل النفاق والمداهنة.
لقد أحرج البريكان بصمته الكثير من المثقفين والشعراء على وجه الخصوص.
? إذا.. نحـــن أمام شاعـــــر رائد كبير, إنساني النزعة, صوفـــي المسلك.
? هذا الشاعر الذي لم يحب طوال حياته أن تسلط عليه الأضواء سلطت عليه مدية, ضربت هدؤه وسكينته وصمته, بمنزله فـي البصرة, فــــي