في السابعة والثلاثين

عبدالمجيد التركي

ها أنا أجرجر خلفي 37 عاما من الهزائم والانكسارات.. وبعض ذكريات من الطفولة لا تصلح أن تكون ذكريات.. الدمى حافلة بالذكريات أكثر مني..
ليس هناك شيء يستحق الالتفات إليه في حياتي طيلة 37 عاما.. حياة اعتيادية رغم أني أراها مرعبة بيني وبين نفسي وما زلت مصرا على البقاء في مرحلة الطفولة.. ما زلت أحتفظ بدراجتي الصغيرة وجزء عم وبعض الملابس التي لا أصدق أنها كانت تتسع لي.. ما زلت أحتفظ بروشتة كتبها لي الطبيب وكم شعرت بالزهو حينها لأن يد الطبيب كانت أول يد أراها تكتب اسمي.. شعرت أنني مهم جدا وأن هناك من يقتطع من وقته 30 ثانية لكتابة اسمي.
حين شربت لأول مرة زجاجة كوكاكولا- كاملة- أحسست أنني رجل كبير وأن بإمكاني أن أتصرف كرجل راشد وكأن زجاجة البيبسي هي المعيار لدخول عالم الكبار.. وحين تمكنت من قيادة الدراجة لأول مرة كنت أوقن أنني قادر على تحريك الأرض بعجلة واحدة.
دخنت أول سيجارة في طفولتي لأنني مللت من التصرف كولد صغير ولأجرب معنى أن أكون رجلا.. وإلى الآن لم أصل إلى هذا المعنى البعيد.. فطويت سنوات كثيرة من البراءة بتدخين سيجارة واحدة بداخل المسجد الذي لم يكن به سوى ولد شقي وسيجارة راشدة وثالثهما الشيطان الذي ظننته العبد الصالح وهو يمد لي بالولاعة.
لم يكن الشيطان إلا أنا في سن متقدمة ولم يكن ذلك الطفل- الذي لم يجد مكانا أكثر أمانا من المسجد ليدخöن فيه عشر سنوات من البراءة- سواي.
لم يكن لدي ألعاب كثيرة فقد كانت كل ألعابنا مجانية.. نرسم في الشارع مربعات بالفحم لنتقافز بداخلها أو نصنع سيوفا خشبية لنحارب الكفار في الحارة المجاورة.. وكنت أنا الوحيد الذي أربط إحدى عيني بخرقة سوداء فقد كانت تستهويني فكرة أن أصبح قرصانا بعين واحدة وساق خشبية!!
الآن في السابعة والثلاثين وأشعر أنني كبيت قديم يتداعى.. نوافذ كثيرة لم تعد تنفتح بداخلي حتى باب بيتنا القديم الذي كنت أدفعه بيدي الصغيرتين ما زلت أحمله لكنه أصبح مغلقا ولم يعد يحتمل الدخول والخروج لأنه لم يعد قادرا على إصدار تلك الأصوات المرعبة التي كانجدي يسكتها بقليل من السمن البلدي وكأنه كان يضع نذورا لهذا الباب المسكون بأصوات كان يفشل في تقليدها.
أصبحنا نبتهج بالتهاني بعيد الميلاد حتى وإن كان المقابل سنة كاملة ندفعها للحصول على تهنئة فكيف نهنئ بعضنا بضياع سنة لنتقرب أكثر من الموت!!
الحياة ضرب من العبث ولذلك كنت أحفر اسمي على الصخور وكأنه تعويذة سيحميها من غوائل الكسارات ومطارق البنائين.. لكن الديناميت كان أقوى من اسمي المحفور لذلك آمنت أن لكلö شيء نهاية.
سمحت للبعوض أن يقرصني كثيرا لا لشيء إلا ليتوزع دمي بين القبائل ولأشعر بالتواجد في كل مكان حين يأخذ البعوض قطرة من دمي ويطير.. لم تكن لدي البصيرة الكافية لأرى هل كان البعوض يتجشأ بعد تلك القطرة أم أنه كان يبصقها لأن فصيلة دمي لا تناسبه!!
تمنيت كثيرا أن أصبح شخصية كرتونية لأتزوج بالليدي أوسكار وأحمل سيفها لأرى إن كان سيلمع في يدي ولألمس جاكيتها الأبيض فقد كنت أحلم أن أمتلك مثله في يوم ما.. وفي الرابعة والثلاثين توقفت تماما عن ارتداء أي جاكيت فقد تصالحت مع الـ نص كم وأصبحت نصف يدي محروقة من الشمس لذلك أحب أن أتعامل معها على أنها يد شخص آخر ما دام لونها مختلفا عن بقية جسدي.
فرحت بالدراجة الصغيرة أكثر من فرحتي بشراء سيارة هونداي بآلاف الدولارات.. لماذا كلما كبرنا تصغر الفرحة.. كم من الحزن يلزمنا لنفقد فرحتنا بكل شيء!!

قد يعجبك ايضا