الفن والحياة والعولمة


يندرج كتاب “قبعة فيرمير: القرن السابع عشر وفجر العولمة” تأليف المؤرخ البريطاني المتخصص في تاريخ الصين تيموثي بروك , الصادر عن مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ونقله للعربية د.شاكر عبد الحميد.
ضمن ما يمكن أن يسمى – بشكل عام – بالدراسات الثقافية وبشكل خاص بالنقد الثقافي وفيه يأخذنا مؤلفه – تيموثي بروك – معه زمانيا إلى القرن السابع عشر ومكانيا إلى هولندا أو ما كان يسمى بالأراضي الواطئة فهناك في مدينة دلفت ولد فيرمير أشهر فناني الضوء ربما في تاريخ الفن التشكيلي عامة حيث قد لا يذكر تاريخ الفن بعده مثل هذا الشغف بالضوء إلا مقترنا باسم “فان جوخ” وشموسه المشعة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
في دلفت غرب هولندا على بحر الشمال حيث لد فيرمير ورسم أهم لوحاته ومنها لوحة “الضابط والفتاة الضاحكة” حيث الضابط يرتدي قبعة خاصة كبيرة من الفرو – ومن هنا جاء عنوان الكتاب- وكان مقر الفرع الرئيسي لشركة الهند الشرقية الهولندية يوجد أيضا في تلك المدينة ومن هناك كانت تنطلق السفن نحو الشرق وتعود منه تنطلق بالبحارة والسلع وتعود ببعض البحارة فقط وبسلع أخرى كثيرة متنوعة هكذا بدأ التاريخ الحقيقي للعولمة – كما يقول تيموثي بروك – من هناك من ذلك المكان وذلك الزمن.
في هذا الكتاب ينتقل مؤلفه بنا من الفن إلى الحياة ومن الحياة إلى الفن من الفن الذي في الحياة: تجارة اللوحات والخزف والفراء والمنسوجات وغيرها إلى الحياة التي في الفن: صناعة السفن وتجارة التبغ وعمليات التبادل الثقافي والحروب والصراعات الكبرى التي دارت هنا وهناك والتي استهلت الحقبة الاستعمارية الكبرى في تاريخ البشرية والتي رصدها الفن أو سجل آثارها المتناثرة هنا وهناك.
جاءت اللغة الإنجليزية لمؤلف الكتاب ممتعة في معظمها إذ كانت زاخرة بالاستعارات والتشبيهات والإمثولات والأبيات الشعرية والإشارات الثقافية إلى الشرق تارة وإلى الغرب تارة أخرى وخلال ذلك كله كان هناك حضور كثيف للفن والتاريخ والجغرافيا وعالم البحارة والتجارة وصناعة السفن والممارسات الثقافية والتبادلات الإنسانية والحضارة والاكتشافات العلمية. ولقد انعكس ذلك على النسخة المترجمة للكتاب فجاءت اللغة العربية للكتاب كلاسيكية حينا ومعاصرة حينا آخر وبدت المفردات والتعبيرات وأسماء الأعلام الصينية والغربية وغيرها حاضرة بكثافة عبر هذا النص الممتع.
عاش الفنان الهولندي الشهير “فيرمير” (31 أكتوبر 1632 – 16 ديسمبر 1675) خلال القرن السابع عشر وهو قرن كان يموج بكثير من التغيرات الضخمة وقد جسد فيرمير كثيرا من هذه التحولات والتغيرات في لوحاته واستعان في هذا التجسيد بتقنيات الخداع البصري والغرف المظلمة Camera obscura والتي كان رائد الإبداعات الخاصة بها العالم والفيلسوف المسلم الحسن بن الهيثم (965-1039) حيث تمتلك صور “الغرف المظلمة” “ذات الجودة” المعقولة “إحساسا” بصريا خاصا. إنها تنتج أو تحدث إحساسا مكثفا بالنغمة واللون وتقدم تكثيفا مرهفا دون خشونة أو بهرجة أو زخرفة مصطنعة. كما أن الفروق الطفيفة بين الضوء والظل فيها والتي تبدو منتشرة جدا وغير مدركة لضآلتها بحيث يصعب تسجيلها في المشهد الأصلي تصبح هنا – بواسطة الغرف المظلمة – واضحة كما تكتسب التأثيرات النغمية للألوان درجة جديدة من التماسك وقد تجلى ذلك كله في أعمال فيرمير الذي قيل إنه استخدم هذه الغرف المظلمة للكشف عن بعض الخصائص البصرية المميزة التي تكون أقل وضوحا أو غير واضحة في الطبيعة والإبراز لها.

وهناك أيضا تلك الأمور المتعلقة بالرموز والتفسيرات الخاصة بالعمل والتي لا تكون موجودة بداخله حرفيا بل مجازيا ورمزيا وأمثوليا فلوحة فيرمير “امرأة تزن الفضة” (1657) يمكن تفسيرها على أنها تمثل امرأة تقوم بوزن سلع أو حلي أو ذهب أو فضة…إلخ أي أشياء العالم المادي بميزان حساس وتقف أمام لوحة تمثل يوم الحساب حيث ستوضع أعمال الإنسان وتوزن بميزان يفصل بين حسناته وسيئاته والمقارنة بين هاتين العمليتين من الوزن أمر لا يمكن تجاهله في هذه اللوحة. وهي أمور عقلية أو معرفية غير مجسدة تكوينيا. لكن آخرين منا قد يهتمون أكثر بتلك العناصر التكوينية التي في اللوحة مثل صورة يوم الحساب تلك.
يستعرض المؤلف عبر فصول هذا الكتاب بدايات العولمة من وجهة نظره كما تجسدت من خلال لوحات الفنان فيرمير ومن خلال الأشياء التي توجد في هذه اللوحات كالفضة والقبعات والكؤوس وأطباق البورسلين والخرائط وغيرها ومن خلالها يرصد –خارجها- التاريخ كما يتجسد في الرحلات البحرية والحروب التي دارت بين الأمم في الشرق والغرب وغير ذلك من الموضوعات. هكذا يقول مؤلف هذا الكتاب: “إننا عندما نتجول بأعي

قد يعجبك ايضا