الشهداء وإعلام دراكولا

عباس السيد


 - قبل أكثر من عام سألت زميلا يعمل في فضائية محلية: لماذا تقومون بعرض المشاهد الأكثر بشاعة وإيلاما للشهداء والجرحى¿ قال: لكي يعرف الرأي العام همجية السلطة وبشاعة المجرمين ولما رأيت أنني فشلت في إقناعه بوجهة نظري قلت
عباس السيد –

قبل أكثر من عام سألت زميلا يعمل في فضائية محلية: لماذا تقومون بعرض المشاهد الأكثر بشاعة وإيلاما للشهداء والجرحى¿ قال: لكي يعرف الرأي العام همجية السلطة وبشاعة المجرمين ولما رأيت أنني فشلت في إقناعه بوجهة نظري قلت له في ما بشبه الوصية: أنت تعرف بأنني ارتاد نفس الأماكن وأمر بتلك الشوارع والطرقات الخطرة فإذا قدر لي أن ألقى مصير أولئك الشهداء فلا تعرضوني في فضائيتكم شبه عار أو غارقا في دمي لا تعرضوا أحشائي أو اشلائي ولا تقدموا جثتي للرأي العام في قطعتين أو ثلاث.
ما أرجوه منكم هو أن تذهبوا إلى أقاربي وتختاروا من البومي أجمل صوري وقولوا للرأي العام هذا هو الشهيد فلان وإذا أردتم أن يكون المشهد أكثر تأثيرا اختاروا لي صورة مع بعض أطفالي.
حينها أظهر زميلي ميلا نحو وجهة نظري وشعرت أن شكوكه حول ثورتي قد تبددت وأن ترشيد عرض المشاهد المؤلمة والصادمة لا يعني التقليل من بشاعتها بقدر ما يعني احترام حقوق الضحايا والبدء بتكريمهم من لحظة سقوطهم.
الأمر ذاته ينطبق على الإعلام الرسمي ولو أن التفجير الذي حدث في جامع النهدين كان في جامع آخر والضحايا مواطنون عاديون لاصبحت جثثهم وأشلاؤهم وليمة دسمة لكاميرات الإعلام الرسمي والحزبي والأهلي.
ومع ذلك لم يصمد الإعلام الرسمي طويلا في وقاره ليفاجئنا بعد حوالي شهر من الحادثة عبر واحدة من فضائياته بصورة الرئيس السابق علي عبدالله صالح وهو بحالة سيئة كانت صادمة لأنصاره وخصومه في آن وما كان ينبغي أن يعرض رئيس الدولة وهو بتلك الهيئة ولكنه “إعلام دراكولا”.
بعد 48 ساعة من حادثة جمعة الكرامة 18 مارس 2011م كانت وسائل إعلام الثورة تعلن لذوي الضحايا بالتواجد في مستشفى جامعة العلوم لاستلام جثامين أقربائهم خلاص انتهت الوليمة ولم يعد بالإمكان أن تحلق حول الجثث لمدة أطول.
الجثث تعفنت ولا يوجد أماكن كافية في ثلاجات الموتى بالمستشفى. هذا ما قاله صحفي بارز في اللجنة الإعلامية للثورة الشبابية عندما سئل عن أسباب التسرع في التخلص من جثث الشهداء ودعوة ذويهم لاستلامها ولماذا لا يرتب لهم جنازة تليق بهم ولماذا لا يشيعون إلى مقبرة الشهداء في باب اليمن خصوصا وأن الرئيس قد اعتبرهم شهداء على الأقل لاختبار مصداقيته.
دفن الثوار بعضا من جثث شهداء جمعة الكرامة في قطعة أرض صغيرة داخل حدود «الفرقة الأولى مدرع» ولكنك تحتاج إلى ترخيص مسبق كي تدخل المقبرة وتضع وردة على أضرحتهم أو تقرأ الفاتحة على أرواحهم.. ربنا يفك أسرهم.
وفي جريمة السبعين التي حدثت في الـ21 من مايو الماضي وراح ضحيتها أكثر من مائة شهيد ومئات الجرحى تسابقت كاميرات الإعلام الرسمي والأهلي والحزبي وحتى الهواة إلى وليمة دسمة أخرى «لحمة ميري» ثم تقيأتها على أوراق الصحف وشاشات التلفزة وشبكة الانترنت دون مراعاة لحقوق الشهداء ومشاعر أسرهم ولا لحقوق القارئ أو المشاهد.
اكتفت تلك الوسائل بتصوير الدماء والأشلاء والجثث المحترقة ولم تقدم أي صورة لمسرح الجريمة أو مكان الانفجار أو مخططات جرافيكية تسهم في الإجابة على تساؤلات الناس التي لا تحصى.. حتى هوية الضحايا «اسماؤهم وصورهم» لم تكن شأنا له قيمة عند هذه الوسائل فبقت مجهولة كهوية الجناة.
قالوا لنا أن الجرحى مائتان ثم ثلاثمائة ولم يقولوا لنا عدد الحالات الحرجة فهل تكفي عبارة «إصاباتهم مختلفة» هل تضيف مثل هذه العبارة شيئا ذا قيمة معلوماتية¿!
ألا تشبه عبارة المصدر الأمني أو الطبي «اصاباتهم مختلفة» شهادة عادل إمام في مسرحية «شاهد ما شفش حاجة» عندما أضاف في شهادته للقاضي «هي فوق ما كانت رقاصة كانت بترقص» يا سلام ع الاضافة!!
نقل خمسة من الجرحى إلى مستشفى القوات الفرنسية بجيبوتي وجاء الخبر من السفارة الفرنسية و«أصحابنا مشغولين» باللحمة والدم والتباكي وتصوير أفلام دراكولا.
بعد 48 ساعة من الحادث استدعي ذوو الشهداء على عجل إلى مقر الأمن المركزي وقدمت لهم «سلفة على ذمة مرتبات الشهداء» ووعد بتشييع مهيب جرى في اليوم التالي بين أسوار مغلقة وبعد انتهاء التصوير تسلمت كل عائلة أشلاء قريبها أو ما يعتقد أنه كذلك ليعود بها كل إلى محافظته.
لقد بخلنا على شهداء السبعين بقطعة أرض كان يمكن استقطاعها من حديقة السبعين المترامية الأطراف والتي استشهدوا على اسوارها تجمع فيها جثامينهم وتخلد ذكراهم وكان ذلك هو التكريم الأمثل والتجسيد الصادق لحقيقة مشاعرنا نحو الضحايا وإدانة مستمرة للإرهاب.
في حادث مصنع 7 أكتوبر للذحيرة بمحافظة أبين

قد يعجبك ايضا