إشكالية مفهوم الوطن في مواجهة مفهومي الأمة والتنظيم الديني

بقلم: عزمي عاشور


بقلم: عزمي عاشور –
هل صدق المفهوم يأخذ شرعيته من الواقع أم من المسمى¿ فمن المفاهيم ما يقترب بشكل كبير من الواقع ومنها ما يبتعد عنه وأكثر المفاهيم التي ارتبطت بالواقع كممارسة وشعور مفهوم الوطن الذي تبلور بهذا الشكل نتيجة لتجارب كثيرة قد عانتها المجتمعات من ويلات الحروب بسبب ظروف مرتبطة بالتشبث بقيم ومفاهيم ايدولوجية ودينية…
وتأتي عبقرية مفهوم الوطن من أنها تعاملت مع الواقع من منطلق جغرافي وأن الإنسان بن المكان ليس وفقا لأسس عقائدية أو دينية واثنيه وإنما وفق أسس مناخية وجغرافية تشكل إنسان هذا الحيز الجغرافي بخصائص عيش مشتركة تجعله يتفوق فيها عن الظروف الأخرى… وتجارب الحضارات التى عاشت في ضفاف الأنهار كانت أسبق من النظم الحديثة في الانتصار للوطن القائمة فكرته على الحيز الجغرافي وظروف العيش مثلما كان موجودا في الحضارة الفرعونية بمصر وبابل في العراق… فخصائص الموقع الجغرافي والعمل الزراعي وما ارتبط بذلك من تفاعلات اجتماعية مختلفة قد خلقت الشخصية المصرية القديمة وهو ما شكل الأساس لبناء هذه الشخصية على مدار آلاف السنين.
ولم يكن ظهور مفهوم الدولة القومية في القرن السابع عشر منذ صلح وستفاليا 1648 يعكس مفهوم الوطن بالشكل المعيشي والجغرافي بقدر ما كان يعكس فكرة أيديولوجية أو اثنية لذلك كانت النتيجة الحروب والصراعات الأوروبية التي انتهت بحربين عالميتين مدمرتين راح ضحيتها الملايين من البشر… ومن هنا كانت أهمية إعادة ترجمة المفهوم بوضع الإنسان كهدف أساسي فيه بصرف النظر عن أي انتماء له فهو الوحدة أو النواة لهذا الوطن وبالتالي ضرورة البحث عما يحفظ له كرامته لذلك فالنظم السياسية الحديثة ترجمت مفهوم الوطن بتركيزها على هذه العوامل دون أن تبرز عوامل أخرى كالدين والاثنيات وغيرها…
ومن هنا استطاعت دولة كالولايات المتحدة أن تقدم نموذجا جديدا في صنع المواطنة في نظام مؤسس على قانون تنتفي فيه الفوارق الاثنية والدينية… استطاعت أن تجمع الولايات الخمسين في شكل فيدرالي تبرز قيمته في انتصاره لقيمة هذا الإنسان المكون الأساسي لهذا الاتحاد الفيدرالي الذي منه نبعت فكرة المواطن الأمريكي… فقد احترمت الإنسان وقدرته وفق مبادئ مرتبطة بالحرية وبالكرامة الإنسانية واحترمت خصوصياته في شكل لا يتعارض مع مصالح المجموعة… والتجربة الأمريكية -ليس من السهولة الشرح فيها- لكونها قائمة بالأساس سواء في وجود الدستور أو في إطار المؤسسات والقانون على أفكار فلاسفة النهضة الحديثة من أمثال لوك وهوبز وغيرهم… ومن هنا يسهل التفرقة ما بين العام والخاص إذا استخدمنا مفهوم المصلحة بحيث لا يمكن أن تضيع المصلحة العامة في سبيل تحقيق المصلحة الفردية أو العكس فالكل في تشكله فيه توازن وانسجام لتتحقق مصالحه.

كل ذلك كان ترجمة حقيقية لمفهوم الوطن (العام) الذي ينصهر بداخله الخاص “الأفراد” المتباينين دينيا واثنيا وأحيانا لغويا… والانصهار هنا نابع في كونهم أمام الحقوق والواجبات متساوين وأنهم أمام الفرص التي تهيأت -بشكل يحمل قدر من العدالة- متساويين أيضا والمساواة هنا لا تبخس المتفوق حقه بل تفتح الطريق أمامه…
بالنسبة إلى كثير من مجتمعاتنا لم تستطع أن تنتصر إلى مفهوم الوطن بهذا الشكل فعلى الرغم من وجود حضارتين قديمتين انتصرتا لهذا المفهوم في الماضي في كل من العراق ومصر فإن اختلاق المفاهيم غير الواقعية ومحاولة تركيب الماضي على الحاضر كان سببا في ظهور مفاهيم مضادة ومفتتة لمفهوم الوطن ومن أبرزها ظهور مفهومين متضادين من حيث حيزهما الجغرافي الأول هو مفهوم الأمة والثاني يقابلها على المستوى الأصغر هو مفهوم التنظيم. فالأمة هنا لا يقصد بها الوطن وإنما كل ما هو إسلامي…

وهو أمر قد يكون عابرا لكل الأوطان بما فيها دول كثيرة غربية التي يوجد فيها ملايين من المسلمين ومن هنا فالفكرة تبدو هلامية لأن الذين يدعون إلى تحقيق هذا المفهوم يبنون تبريراتهم على أسس دينية وهو ما يتناقض تماما مع التعريف الأساسي لمفهوم الوطن الذي يرتبط بالمكان المعيشي الذي يحقق حاجات الإنسان بصرف النظر عن انتمائه الديني أو انتسابه الاثني ومن ثم ليس من المستغرب أن نجد مسلمين يعيشون في وضع أفضل من ناحية المعيشة والحريات والكرامة الإنسانية في مجتمعات أغلبيتها تحمل ديانات أخرى ولكن يعيشون تحت انتماء الوطن الواحد كالولايات المتحدة أو بريطانيا عن غيرهم ممن يعيشون في مجتمعات تنادى بمفهوم الأمة كأفغانستان أو باكستان أو حتى في بعض الدول العربية… وإذا كان مفهوم الأمة على المستوى العابر للأقطار لا يمكن تركيبه على الواقع لأنه لو حدث لاقتتل البشر فيما بينهم لأن كل إنسان سينتصر لديانته

قد يعجبك ايضا