“النصر المطلق”؛ الجملة التي تغنّى بها مجرم الحرب نتنياهو بعد عملية الكوماندوز الأقوى والأنجح، والتي لم يُشاهد مثلها في التاريخ، وكان أبطالها نخبة القسام من غزة، وكان طوفان الأقصى أو بداية نهاية الكيان. وبعد الإذلال الكبير الذي أصاب أكبر وأقوى قوة عسكرية في المنطقة، جاءت أمريكا من بعيد ليقوم وزير خارجيتها برحلة مكوكية لدول المنطقة، مهددًا ومتوعدًا قائلاً: “لا أحد يساعد غزة، دعوها لوحدها أمام إسرائيل”. ثم يقوم رئيس أمريكا ووزراء إدارته ومبعوثوه بتواجد مكثف في الكيان، لتلافي الانهيار وزوال أكبر قواعدها العسكرية المسماة بالكيان الإسرائيلي، وقد كان ذلك أن لا يتحقق لولا الخضوع العربي الإسلامي للأمريكي والصهيوني.
كاد “النصر المطلق” أن يتحقق للعرب والمسلمين على أمريكا والغرب الكافر بعملية بسيطة قام بها بضعة أشخاص وبأسلحة متواضعة وآليات وتكتيكات بسيطة، لو أن العرب والمسلمين وقفوا جميعًا ضد تهديدات أمريكا، وحاصروا الكيان اقتصاديًا، وقاطعوه دبلوماسيًا، واستخدموا ما وهبهم الله من قوة – ثروات نفطية وغازية وموقع جغرافي – للضغط على العدو. لكن ما حصل غير ذلك، فوقف الأعراب لإنقاذ الكيان ودعمه، والمشاركة في جريمة القرن التي استهدفت الأطفال والنساء في غزة بشكل أساسي.
مجرم الحرب نتنياهو حدّد أهداف “النصر المطلق”: بالقضاء على حماس وتفكيكها عسكريًا، وتحرير الرهائن، وألا يمثل قطاع غزة تهديدًا أمنيًا لإسرائيل في المستقبل. هذه الأهداف منذ بدايتها واجهت انتقادات من داخل الكيان نفسه والحلفاء، حيث الجميع يعلم أن حماس حركة مقاومة، والمقاومة لا يمكن هزيمتها بعملية عسكرية، وهذا ما أثبته التاريخ والسنن الإلهية في هذا الكون.
وعلى ذكر التاريخ والسنن الإلهية، وتوجّه نتنياهو إلى القيام بعملية شاملة في قطاع غزة بعد أكثر من سنة ونصف من الفشل في تحقيق أي من أهداف “النصر المطلق”، يبدو لنا من العجيب – أن من يتأمل في قصة موسى عليه السلام وبني إسرائيل عندما كانوا مستضعفين في زمن فرعون – أن ما يمكن وصفه بـ”النصر المطلق” سيكون قريبًا وبطريقة مفاجئة وغير متوقعة.
في يوم الجمعة الثامن من أغسطس من العام 2025م، قرر المجلس الوزاري السياسي الأمني المصغر (الكابينت) احتلال غزة، وللقيام بذلك يحتاج إلى حشد كل القوات النظامية، أي قوات الجيش الإسرائيلي بالكامل. بإمكانك أن تتخيل أقوى جيش في المنطقة يحتشد لاحتلال قطاع غزة الصغير في مساحته الجغرافية، وأمامه الكثير من العزّل بدون سلاح، والنساء والأطفال، والقليل جدًا من المجاهدين بأسلحتهم المتواضعة. وهنا يظهر لنا أشهر القصص على مر التاريخ:
{ فَأَوۡحَیۡنَاۤ إِلَىٰ مُوسَىٰۤ أَنِ ٱضۡرِب بِّعَصَاكَ ٱلۡبَحۡرَۖ فَٱنفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرۡقࣲ كَٱلطَّوۡدِ ٱلۡعَظِیمِ (٦٣) وَأَزۡلَفۡنَا ثَمَّ ٱلۡـَٔاخَرِینَ (٦٤) وَأَنجَیۡنَا مُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُۥۤ أَجۡمَعِینَ (٦٥) ثُمَّ أَغۡرَقۡنَا ٱلۡـَٔاخَرِینَ (٦٦) }
[سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ٦٣-٦٦]
هذه إحدى الصور لـ”النصر المطلق” في القرآن الكريم؛ ففرعون، بكل من حشدهم هم وأسلحتهم، غرق ونجا موسى ومن معه، ولم يكن لديهم سوى إيمانهم بالله وعصا موسى. كان فرعون قريبًا جدًا من “النصر المطلق”، تخيل المنظر في الآية الكريمة:
{ فَلَمَّا تَرَ ٰءَا ٱلۡجَمۡعَانِ قَالَ أَصۡحَـٰبُ مُوسَىٰۤ إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ } [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ٦١]
أليس يشبه بقدر كبير ما سيقوم به نتنياهو؟ ألن يشعر من هم في الجانب المقابل بمثل ما شعر به أصحاب موسى {إِنَّا لَمُدۡرَكُونَ}؟ أليس موقف المجاهدين اليوم هو موقف موسى عليه السلام { قَالَ كَلَّاۤۖ إِنَّ مَعِیَ رَبِّی سَیَهۡدِینِ } [سُورَةُ الشُّعَرَاءِ: ٦٢]؟
ونرى صورة أخرى من صور “النصر المطلق” في القرآن الكريم، في قصة طالوت عليه السلام:
{ قَالُوا۟ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡیَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِینَ یَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُوا۟ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ } [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٤٩]
فيرى في مشهد اليوم أن لا طاقة لنا بأمريكا وإسرائيل وجنودهما، ولكن نرى المجاهدين في غزة وأنصار الله في اليمن يقولون: { كَم مِّن فِئَةࣲ قَلِیلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةࣰ كَثِیرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ }. ونحن في اليمن شاهدنا ذلك ولمسناه تحت قيادة السيد القائد عبدالملك الحوثي، وبفئتنا القليلة هزمنا فئات كثيرة من التحالف العربي والأوروبي البحري، وفي الأخير الأمريكي بقيادة ترامب. وكل تلك المعارك ما هي إلا معارك مبدئية لتجهيزنا للمعركة الفاصلة التي سنذوق فيها “النصر المطلق” بإذن الله سبحانه وتعالى. والمعركة نراها قريبة، وتحركات الأعداء مكشوفة، وتحشيدهم للمرتزقة والأعراب والدول الكبرى، فكلما كان تحشيدهم أكبر كلما كان النصر المطلق أقرب. ليأتي “النصر المطلق” على هذه الهيئة لطالوت والذين معه:
{ فَهَزَمُوهُم بِإِذۡنِ ٱللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُۥدُ جَالُوتَ } [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٥١]
ومن خلال كل ذلك، وغيرها من القصص والأحداث التاريخية، نعلم أن الطغاة هم من يحققون “النصر المطلق” عند حشد كل قواتهم، ووصولهم إلى أوج طغيانهم، وسعيهم إلى إبادة الفئة الأخرى المستضعفة قليلة العتاد والعدة، فهم يحققون “النصر المطلق” ليس لهم، بل للمستضعفين، ويحققون الهزيمة والفناء للطغاة وجيوشهم.
وفي الأخير، يخطر في عقل القارئ السؤال: كيف ستكون هيئة “النصر المطلق”؟