“يموتون غرباء”

جميل مفرöح

 - *  حين تغدو الأحلام غير ممكنة, والآمال مستحيلة, وتصير الحياة سلة انتظار نكون بداخلها مجرد قش لا وزن ولا قيمة له, وحين نبدأ نشعر بأن كياننا مجرد فاصلة لا تكاد تذكر بين حاصرتي
جميل مفرöح –

* حين تغدو الأحلام غير ممكنة, والآمال مستحيلة, وتصير الحياة سلة انتظار نكون بداخلها مجرد قش لا وزن ولا قيمة له, وحين نبدأ نشعر بأن كياننا مجرد فاصلة لا تكاد تذكر بين حاصرتي الولادة والفناء, وحين يتراءى وربما يتأكد لنا في أحايين جمة, أننا ركام من الأصفار المهترئة على يسار الوجود, وحين…, وحين…, وحين يفتح لنا الهامش أبوابه, ثم يتحول بمجرد العبور إليه إلى سجن كل جهاته ظلام دامس.. حينها فقط ندرك أن ثمة شيئا اقترفناه أو شيئا لم نقم به كما يجب, لنستحق كل ذلك العناء والفناء..
* ذلك ربما ما نستطيع أن نقوله وما يتوفر لنا أن نفعله, حين نتأمل الواقع, وهو يكشöر عن أنيابه كلما حاولنا أن نتلمس من حولنا سببا للابتسام, ويبرد أظافره كلما نزعنا إلى التناسي والتغافل وادعينا أن كل شيء على ما يرام, أو على الأقل كما قدöر له أن يكون.. ذلك ما نكاد نبدو عليه, لأنه كل ما نستطيع.. نرضى بالعسر بينما لا تفصلنا عن اليسر سوى رفة رمش أو نبضة إرادة, وكأننا خلقنا مجبولين على الإذعان الأبله لوسواس الهزيمة, والاستسلام الأخرق لنظرية “ليس في الإمكان أفضل مما كان”..
* ذلك ما يصوöره حالنا المزري اليوم, وما ندعي أن الواقع وحده يفرضه ويمليه علينا ويقدöره لنا, وكأن الواقع إله لا راد ولا مغير لأمره وإرادته.. فيما حقيقة الأمر تحكي أننا لا نواجه أنفسنا وحالنا وواقعنا ومصائرنا بشيء من الجدية والواقعية والرغبة الفعلية في التغير والتغيير الحقيقيين, وفي نيل الحياة الكريمة العزيزة التي لا نمل ندعي أننا نستحقها في شعاراتنا الصامتة وتمتمات شفاهنا فيما بينها, وفي محيط دائرة الهمس الضيقة والضيقة جدا.. حقيقة تبين أننا, كبشر إن جاز لنا وفينا الوصف, نكاد نؤمن بالخذلان ونحتفي به, بل ونتخذ منه بوابة مصيرية قدرية وربما حصرية, للعبور إلى كلö شيء حتى إلى أنفسنا.. وأننا بالمعنى الأدقö والأقرب إلى ما يشبهنا, قدر مجهول لا عيون ولا أيادي ولا فم له, يقف على باب الحياة, بانتظار من يعبر به, أو على الأصح من يجترح ويسمي ويمارس العبور نيابة عنه..
( أحمد سليمان.. لا تذهب)
* في الأمس القريب شعرنا بخذلان كبير, تخترق رصاصاته القاتلة شغاف القلوب, ونحن نتلقى نبأ رحيل الزميل الكاتب محمد الجبلي, بعد أن كلت سواعده وكفوفه تلويحا وإيذانا بالرحيل, وجفت أفواه اللغةö رجاء ومناشدة, وماتت قبله كل الحواس التي يمكن أن تستجيب أو حتى تشعرنا بكونها حواسا, وبكون ذويها أولي قربى لنا..
واليوم ها هو الزميل المبدع والشاعر الرائع أحمد سليمان بصمته وعزة نفسه أيضا يحمل ذات الراية ليفرض علينا ذات الاستغاثة وطلب النجدة التي لا نجيد سواها ولا نستطيع أكثر منها.. ولكن يبدو أن الحواس تحولت إلى مجرد نوافذ مفتوحة على العراء, والقلوب صارت فقط علبا فارغة تلتهم وتلفظ الخواء, وتصدأ على قارعة الإنسانية, وأيضا تدهسها شاحنات الواقع المتهوöرة..
* ومع ذلك ولذلك سنظل نعلن الاستسلام ونفرط في الإذعان, ونكثر من الرجاء والثناء والولاء والدعاء, ونقول ونفعل ما يملى أو يفرض علينا أو يراد منا, إن كان ذلك سيحول دون أن نموت كما يحدث غرباء, ويعفي أحمد سليمان من التلويح بالوداع, ليدخر لنا مزيدا من الحسرات والأسف والدموع لمناسبة أخرى من الحزن الذي يبدو أنه أصبح لا يطيق عنا فراقا..
* مع الاعتذار لروح وجلال المبدع الراحل محمد عبد الولي لاقتباس عنوان روايته الشهيرة “يموتون غرباء”
gamofarreh@gmail.com

قد يعجبك ايضا