الذات المغتربة في الوطن المنسي (1-2)

فايز البخاري


فايز البخاري –

يقال بأن العنوان هو العتبة الرئيسية التي يلج منها المتلقي إلى عوالم النص الأدبي. وأنا أتفق مع هذه الرؤية تمام الاتفاق بالنسبة لرواية ( أزمنة الترحال والعودة ) للروائي الحسن محمد سعيد الذي اختزل في عتبة نصه كل ما يريد قوله أو إيصالöهö إلى المتلقي. إذú يكاد العنوان لوحدöهö يكون نصا بحد ذاته نتيجة الكثافة الشعرية التي اشتمل عليها. وقد كان للروائي من هذه اللغة حظ كبير يبدو جليا من خلال المفردات والصور والتراكيب الشعرية التي بثها في جسد روايته وكانتú خير شاهد على إبداع هذا الروائي الذي يملك من مقومات الإبداع الشيء الكثير.
وقد تكررت مفردات العنوان في كل فصول الرواية بشكل يؤكد أن الروائي يريد أن يوصل فكرة الرواية التي اختزلها في العنوان بشكل أسرع ويقول للمتلقي هذه هي مأساتي.
حين يقول الحسن محمد سعيد في إهدائه الذي صدر به روايته:( إلى طيورö السودان المهاجرة.. عقولö أبنائöهö التي ارتحلتú عنه في أزمنة الاضطرارö إما لجبروتö ظالم او لقهرö متربة أو لرعبö مسغبة.. وهو بلد التسامحö والخاطرö المجبور والثراءö الذي يفوق المنظور…) فهو بذلك يفتح للمتلقي بابا واسعا لإدراكö كنهö روايتöهö قبل أنú يعبر إلى مدنöها الفسيحة وواحاتöها المترامية. وبهذا يضع متلقيهö عند أول درجة في المسار الصحيح الذي يريد مöنه أنú يمضي فيه لاكتشاف زمان ومكان وشخوص وفكرة روايته التي تبدو وكأنها عصارة قلبöهö قبل أنú تكون نتاج فكرöهö أو ثمرة ما خطه قلمه ورسمتúه كلماته.
شخصية (معروف) بطل الرواية تكاد تكون هي المعادل الموضوعي للروائي نفسه وما يعتمöل في كوامنöه. وهو الذي يعيش في وطنه الثاني اليمن بعيدا عن وطنه الأم السودان الذي مثل – حسب الروائي وكما هو حال معظم الأقطار العربية- بيئة طاردة لأبنائöهö رغم غناه وتعددö مصادر الدخل والثروة التي يعج بها والخيرات التي يمكن أن تغرق الوطن العربي بأسرöه كما يعلم الجميع. هذا ما يؤكده الروائي في ص13(كله شوق لدفء شمس غابتú كما غاب السودان في الجسد العربي والأفريقي مريضا معزولا ومهجورا وهو زاخر بخيراتö مواردöهö وعطاءاتö بنيهö) وهذا تأكيد لما سبق من نقد لأوضاع السودان التي لم تعجب الروائي. وفي الوقت نفسه تأكيد على المقولة المتداولة إقليميا وعربيا من أن السودان مسلة الوطن العربي ولو زرöعتú كما يجب فستكفي العرب جميعا من المحيط إلى الخليج. ولكنها السياسية الاستعمارية التي لا تريد لهذا القطر العربي الحبيب أي استقرار كما هي تريد لغيره من أشقائه العرب. فضلا عن وجود أنظمة لا تلبي الطموح لدى المبدعين والحسن محمد سعيد أحدهم الذين يرون أن المركب يسير عكس التيار.
والمفارقة العجيبة التي تطالعنا منذ الصفحات الأولى للرواية أن بطل الرواية (معروف) يستغرب كما يستغرب معظم المثقفين العرب الذين ضاقتú بهم أوطانهم وأقطارهم العربية ولم يجدو ملاذا آمنا وصدرا حنونا إلا لدى بلاد النصارى الذين ما انفك دعاتنا يرفعون الأكف بهلاكهم مع اليهود!! وهناك فقط وجد نفسه وأعاد تشكيلها ليخلق فيها ومنها مبدعا له بصماته في فن الرسم والشعر والقصة..((ماذا لو عاش(معروف) ابن قرية الشمال السوداني ببقاياه التي فشل الحزن واليأس في الإجهازö عليها¿
ماذا لو بقي مع أوتارö الشرقö الحزينة وعطورöهö المضمخةö بالولهö الصوفي وأورادöهö الهيمانةö في الغيبيات¿))
هنا يظهر الروائي ناقدا وبشدة لمجمل ما يعيشه وطنه العربي الذي لم يدع منه سوى بقايا كان الغرب- المتمثل ببلاد الله الواسعة وسع الحرية التي يعيشها – هو منú كفل له الحفاظ عليها وتنميتها لتغدو بعد ذلك مبدعا له وزنه وثقله!
وها هو يصل بغربته إلى ((هذه المدينة في الساحل الجنوبي الغربي للنرويج على بحر الشمال.. ما الذي دفع بك إلى تلك البقعة النائية¿ هل السودان طارد إلى هذا الحد فتبعد عنه كل هذا البعد¿!)).. والمؤلم أن السودان (بلاد ترقد في كل خرائط الدنيا في قلب القارة الأفريقية وأكبر أقطارها حجما ومع ذلك يجهلها كل من قابلت) ص23
*الهم القومي بمفرداته وأفكارöهö وشخوصöهö وطموحاتöهö هو المهيمنة الأساسية التي قام عليها هذا النص الروائي وكانتú المحور الذي دارتú مختلف الرؤى حوله وارتكزتú عليه. ويتضح ذلك من خلال ذكر الزعيم القومي جمال عبدالناصر وبكاء الفردوس المفقود المتمثل بالأندلس وهزيمة العرب في نكسة يونيو حزيران عام 1967م. والتي تردد ذكرها في معظم فصول الرواية ووصفها بأنها المرحلة التي يتمنى المرء أن يسقطها من ذاكرته وتاريخه.
(1965-1969م .. فترة المد القومي والأحلام المتوهجة ثم الانكسار المذ

قد يعجبك ايضا