الواقع والأسطورة «2»
أحمد يحيى الديلمي
أحمد يحيى الديلمي –
توطئة
جاء في الهدي النبوي الشويف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام تسعد وتشقى كما يسعد ويشقى البشر ما يميزها عن البشر أن لها ذاكرة قوية فولاذية تسجل الوقائع والأحداث وتختزنها في رفوفها كما حدثت بتأثيراتها الإيجابية والسلبية على نفس المكان والناس القاطنين فيه لا تلجأ إلى تنميق أو تحوير التفاصيل تحرص على تدوين الحقب الزمنية كما هي لا فرق بين لحظات السعادة والشقاء.
من نفس الأسلوب التدوين تتشكل الثقافة المميزة لهوية الأمم من هنا تبرز أهمية السمات التي تنفرد بها ذاكرة المكان ومنها:
التميز بالصدق والوضوح والموضوعية.
إن كون الذاكرة لكائن جماد لا يعقل ولا يتأثر بالأحداث جعلها ذاكرة نقية لا يمكن للبشر شراؤها أو التأثير عليها لصياغة الأحداث وفق رغباتهم وإن تعارضت مع الحقيقة أو الاكتفاء بتدوين المشاهد الإيجابية ولفظ الأخرى السلبية أو التلاعب بمفردات وألفاظ الأحداث والاحتفاظ بها وفق مضمون ويلبي رغباته.
إن ذاكرة المكان لا تشيخ ولا تصدأ ولا يصيبها النسيان قد تتغير تضاريس المكان وتتبدل ملامحه إلا أن الذاكرة لا تتبدل ولا تتحول.
امتلاك ذاكرة المكان حرية مطلقة في تدوين الأحداث والوقائع بشفافية مطلقة لا تجامل ولا تنساق وراء الرغبات البشر هو ما جعل الأماكن شاهد إثبات على مر الأزمنة والعصور.
صحيح أن الإنسان من يصنع الأحداث ويحدد مساراتها إلا أن الأماكن تمثل خشبة المسرح التي تحتوي مجرياتها وتحتفظ بها كما هي سواء كانت عنوانا للسعادة أو اتسمت بالمرارة والقسوة بعكس ذاكرة الإنسان فإنها تمحص الأحداث والوقائع ولا يدونها ويختزنها في رفوف الذاكرة إلا عندما توافق رغباته الذاتية إن كانت إيجابية يبادر إلى تدوينها ووضعها في مساحات بارزة تسهل عليه مهمة استحضارها والاستدلال على موضعها كلما اقتضت الظروف الافتخار والتباهي بها أمام الآخرين باعتبارها صفحات مشرقة تعبر عن ماضي حياته والبطولات التي اجترحها في ذلك الماضي.
بالمقابل يحدث العكس مع الأحداث السلبية عندما يعجز الإنسان عن تمييعها وإعادة صياغتها وفق إرادته فإنه يتجاهلها.
وإذا كانت الظروف قاهرة فإن رفوف الذاكرة تتقبلها مكرهة وعلى مضض تعتمد تهميشها ووضعها في زوايا مظلمة ليجد الباحث صعوبة بالغة في الاستدلال عليها هذه هي طبيعة كل إنسان لا يرغب أن يراه الآخرون في مواضع لا يرضى عنها فيسعى جاهدا لأن يري الناس الصور النقية في حياته الخالية من أي شوائب أو عيوب.
هذه هي طبيعة البشر كل إنسان لا يقبل ما يسيء إليه ويهز مكانته في أعين الناس هنا تكمن أهمية ذاكرة المكان وإن كانت صامتة ولا تتكلم إلا أنها تدون الأشياء كما هي وتجعل ما يظهر من تفاصيلها في نطاق المباح الذي تسهل قراءته والاستدلال عليه هذه الخاصية جعلت الأماكن عنوانا ثابتا للأزمنة ومصدرا لترجيح مصداقية الأحداث والوقائع.
كل مكان بقدر ما يتباهى بالمشاهد الإيجابية فإنه لا يتأفف من السلبية تختزنها الذاكرة كما هي مثال على ذلك أعظم واقعتين متضاربتين في التاريخ الإسلامي وهما:
غزوة بدر أولى المعارك البطولية التي خاضها المسلمون وكان النصر فيها حليفهم دونتها ذاكرة المكان كما هي عنوانا للنصر والعنفوان ومحور القوة التي رفعت معنويات المسلمين وكانت مصدر قوة شوكة الإسلام فلقد أكسبت المسلمين منعة خاصة تخلصوا بها على هواجس الخوف والقلق من العدو والمستقبل وما يحمله من مفاجآت بعد أن تم التآلف بين المسلمين على مثلبة التفاوت في العدد والعدة.
بفعل المدد الإلهي قال تعالى: (لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة).
عزوة أحد ترسخت في الذاكرة باتجاه آخر جعل من جبل أحد شاهد إثبات على أعظم هزيمة تعرض لها المسلمون في كل الظروف لم يتمكن تدخل الإنسان والمساعي التي بذلها لتخفيف وطأة ما حدث وشرح الأسباب التي قادت إلى الهزيمة كل المحاولات البشرية باءت بالفشل وتخلد جبل أحد في التاريخ الإسلامي بأنه موضع الهزيمة.
من يزور المكان تتقافز إلى رأسه معالم تلك المأساة ويتجسد وهو يسترجع بعض التفاصيل الأليمة لتسيطر عليه حالة من الاضطراب الشديد عندما يتذكر حزن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على عمه حمزة سيد الشهداء الذي تعرض للتمثيل البشع بعد الموت.
وهو الموقف البهيمي الذي لا شك أن جبل أحد اهتز له إلا أنه فاقد الحيلة اكتفى بالتأثر وتدوين التفاصيل كما حدثت لتتخلد في ذاكرته كأهم شاهد إثبات على ما جرى.
التوطئة التي أسلفنا كانت ضرورية للتمهيد للم