والذي ما يعتبر في الدهر .. طيس !!
عبدالجبار سعد
مقالة
عبدالجبار سعد
عبد الجبار سعد
في عام 1976م وقد صادف شهر رمضان الكريم نزل علينا سجين جديد في قصر البشائر بصنعاء هو الأستاذ الشاعر عبدالله هاشم الكبسي .. كنا قد سبقناه إلى السجن بأسابيع أو بشهور قليلة .. كان السجن كالعادة مجمع النقائض رغم أن المكان يعتبر سجنا مميزا (خمسة نجوم ) .. كان يحرم علينا القراءة والكتابة والراديو وكل اتصال بالعالم الخارجي إلا من خلال زيارات محدودة للأهل بين الحين والحين لدقائق معدودة ..
استطاع الأستاذ عبدالله هاشم أن يحتال لإدخال قلم صغير أو جزء من قلم واستخدم علب السجائر لكتابة شعره الذي اعتاد ان يدندن به في مناسبات مختلفة والذي اعتاد الكثير على حفظه وكنت منهم وقد كان سبب سجنه ..
****
وفي إحدى ليالي رمضان وفي جلسة السمر تجاورت أنا وإياه في ذلك السجن الحالم !!وهو يكتب شعرا شعبيا ولم يكن ليخفي عن عيني ما يكتب بحكم المجاورة وربما عدم الاكتراث وبعد أن أتم القصيدة قلت له هل تنوي ترسلها للرئيس ..¿ قال بدهشة ما هي ¿ قلت له .. القصيدة
قال وما أدراك بها ¿ قلت له ضاحكا قد حفظتها ..
فازدادت دهشته وقال بنوع من التحدي: أسمعني إياها فأسمعته إياها .. ويبدو أن دهشته تعاظمت من شاب صغير لا يبدو أن له أدنى اهتمام بالأدب يحفظ هذه القصيدة من مجرد النظر .. وكانت بداية معرفة لم تنته حتى الآن وكلما التقينا قلت له أو قال لي ضاحكا ..” برشقوه في ظرف وأدوه للرئيس ” وهو مطلع القصيدة ..
القصيدة كانت تحوي حكما كثيرة .. تذكرتها وأنا أرى أوضاعنا الحاضرة وأرى نقص الاعتبار لدى البعض الذي يظن أن “كل البرم فيها لسيس “ولا يريد أن يعتبر بحقائق الوجود .. ولا يقيس الأمور قياسا صحيحا .. ولا يفكر بعواقب الأمور ولا يدري شيئا عن ماضينا ولا يريد أن يفكر بما سيأتي ..
****
شاعرنا اقتيد إلى السجن بسبب قصيدة رد فيها على أحد العلماء في دولة جارة كان قد أفتى بأنه لا يجوز الزواج بزيدية إلا بعد أن تسلم ويجدد وليها اسلامه ولا يجوز الصلاة خلف زيدي إلا بعد أن يجدد إسلامه أما أنا فقد سجنت لأن لي سوابق سياسية ونقابية طلابية في الخارج !! وكل هذا جعل الوظيفة العامة وخصوصا درجة مدير عام محرمة علي فقد صدر يوم سجني قرار رئيس الوزراء حينها بتعييني مديرا عاما للشئون المالية والإدارية بمصلحة الجمارك وقد فاجأ هذا التعيين رئيس الجهاز المركزي للأمن الوطني حينها الذي كنت سجينا عنده قبل شهور من ذلك القرار أي بعد تخرجي من جامعة الكويت فذهب إلى رئيس مجلس الوزراء وألزمه بإلغاء القرار واستبداله بقرار آخر لشخص آخر واقتادني من المنصة ونحن في احتفال دور التسليم لنحل عليه ضيوفا !! غير مرحب بنا لبضعة أشهر .. ومن المضحكات أن الجريدة الرسمية قد طلعت باسمي ..
عموما فقد تذكرت هذه الأبيات وأحببت أن أشرك الجميع بقراءتها هذه لأنها تنقل وجها من وجوه الحياة السياسية ومطالب المثقف بأن يترك ليقول شعرا بدون أن يسجن فوق ما تضمنته من الحكم واضطررت إلى مراجعة محفوظاتي من الأبيات مع الأستاذ عبدالله هاشم فكانت القصيدة على النحو التالي:
برشقوه في ظرف وادوه للرئيس تحت عنوان هاجسي قال باختصار
صح ما كل البرم فيها “لسيس ” فرق بين هذا وذا بالاعتبار
فرق ما بين المفكر والطسيس فرق ما بين المثقف والحمار
فرق جدا بين من يحبس (خميس ) يعني المقصود حسن الاختبار
ان قد الطيب سواء هو والخسيس صح نار صنعاء ولا جنة ذمار
مستحيل والفكر مغلق أو حبيس تنفتح زهرة ويطلع ازدهار
والعنب ما يثمر إلا بالبقيس واحتباس الفكر يدي انفجار
روحي التفكير ولو قالوا تعيس ثروني هو رأس مالي والضمار
والذي ما يعتبر بالدهر طيس لو معه ألفين شهادة اختبار
واليمن فوق الجميع من غير رفيس هكذا من غير يمين من غير يسار
والذي يفدي بنفسه والنفيس وطنه .. خالد وشعره اعتبار
****
ونعم يا أستاذنا الكبير عبد الله ..
واليمن فوق الجميع من غير رفيس ** هكذا من غير يمين من غير يسار
وصح ماكل البرم فيها لسيس ..