السخرية اللاذعة ثورة على مرارة الواقع

إبراهيم محمد الهمداني


إبراهيم محمد الهمداني –
إن السخرية اللاذعة بوصفها سمة أسلوبية فنية تهدف إلى كشف تناقضات الواقع واختلالاته وتعرية تداخل مفاهيمه واضطراب أيديولوجياته ونظرياته الزائفة من خلال تبصير الآخرين بمرارته وهول مآسيه وعدم قدرته على تجسيد الحقيقة الخالصة أو الاقتراب منها وقد حظيت هذه السمة الأسلوبية برواج واسع في مجال الشعر العربي على امتداد تاريخه ثم اتخذت مكانتها في السرد القصصي والروائي حتى أصبحت في بعض الأعمال الأدبية سمة خاصة مهيمنة كما هو الحال في موضوع هذه القراءة لتؤدي وظيفتها من خلال »إعادة صياغة العالم الواقعي ليس كما تقوله مظاهره المادية أو سطوحه الخارجية, بل كما تقوله النتائج التي يثيرها في دواخل المنتمين إليه, والمكتوين بأوار لاواقعيته ولامعقوليته, وبما يتسرطن داخله من مفارقات غاشمة, وسالبة لقيم الحق والخير والجمال«

ومن خلال التعبير بالألم الساخر يتم التأثير في أفكار المتلقي واعتقاداته وسلوكياته ويعد هذا النقد الساخر انعكاسا لموقف المبدع المتمرد والناقم »على واقعه المشحون بكثير من الخطايا والرزايا والإحن والمحن« في صورة تنضح بالبؤس والمعاناة الناتجة عن الاصطدام بالواقع المرير جاعلة من النزوع التهكمي الساخر اللاذع ملاذا من القمع والكبت وقوة لمواجهة الواقع المتسلط ودحضه وقلب الأمور وتعريه المفارقات بغية »تحطيم الصورة غير المرضية لواقع مكرس وإعطاء انطباع ذاتي ولو وهمي بالتشفي في الأخر القاهر والانتقام منه وبالتالي نوع من التثمين للذات المقهورة المهانة ورد الاعتبار لها ولا ريب في أن هذا التحطيم الوهمي الهروبي هو وليد حالة انهيار نفسي شديدة الوقع يريد صاحبها التخلص منها حتى ولو بالوهمي الآني المسكöن« ولا تقتصر مهمة هذا الأسلوب في تخفيف مرارة الواقع فقط بل تمتد لتصل إلى هدم المفاهيم المغلوطة والسلوكيات السلبية المتصلة بذلك الواقع المتخلخل من خلال عرضه في صورة مضحكة بقبحها منفرة بهزليتها ساخرة بمن وما يحاول تكريسها وإن كانت مضحكة فإنه »ضحك كالبكاء« أو هو ضحك مبك وبهذا »فالسخرية ـ هنا ـ لا نعني بها التهريج والإضحاك كما يتبادر من التسمية. بل هي انعكاس لدرجة الوعي لدى الشخصيات الموظفة في النص« وتتجلى هذه السمة الإبداعية في مظاهر متعددة تنتقد وتهاجم الواقع وملابساته بصورة غير مباشرة أي أنها لا تدخل في صراع مباشر معه وجها لوجه نظرا لما يترتب على ذلك من التبعات والأخطار والمتاعب التي يكون المبدع في غنى عنها خاصة في وضع مائج بالاضطراب والقلق.
تبدو السخرية اللاذعة سمة أسلوبية فنية مهيمنة في أقاصيص »هتاف الخيبة« بدءا من العنوان الخارجي وانتهاء بالعناوين الداخلية والنصوص على وجه أخص ومن خلال النظر في دلالات العنوان نجد أن الـ »هتاف« يشير إلى صدور صوت مجهول المصدر إضافة إلى أنه يحمل طابع الاستغاثة وطلب النجدة والتنويه والإعلام و…..الخ غير أن هذا المسار الدلالي ينكسر عند نسبة ذلك الهتاف إلى »الخيبة« التي تدل على الإخفاق والفشل وعدم التوفيق والحرمان من نيل المطلوب وبذلك يفقد الهتاف فاعليته ودوره الدلالي والفعلي ليعبر عن واقع مظلم ومأساة لا نهائية الاتساع والانتشار أما بالنسبة للنصوص فقد تجلت فيها هذه السمة بشكل كبير وطاغ وسنكتفي بنماذج منها على النحو الآتي:-
»جولة«
»قرر الفقر ذات لحظة أن يتنزه في شوارع المدينة..! لكنه سرعان ما عاد بعد لحظات وهو ينشج بالبكاء:
– المدينة مملوءة بآثامي..!!«.
إن هذه الصورة – بما فيها من كوميديا – مشبعة بذنوب الفقر وأشكاله المتعددة يبدو المجتمع فيها مستلبا بضعفه مرتهنا لرحمة غيره خاضعا لأسر حاجته وعوزه الأمر الذي يجعل حلمه محصورا في كيفية الحصول على ما يسد الرمق وما إن يسكنه هذا الهم ويتمكن منه فإنه يصبح شغله الشاغل وهدفه الوحيد الذي يصرفه عن المطالبة بحقوقه التي كفلتها الأديان السماوية والقوانين الإنسانية ويسلبه بطريقة غير مباشرة شرعيته وصلاحياته في نقد واقعه ويمنعه من ممارسة حياته الطبيعية بكافة جوانبها فيضيق معنى الحياة لديه حتى يرى أن مفاهيمها الرئيسة (الحرية العدالة المساواة) لا تعدو كونها ترفا وبذخا خياليا لا جدوى من الحلم بها ناهيك عن السعي لتحقيقها وحينئذ تصبح سياسة تكريس الفقر بكافة مظاهره وسيلة ناجحة وفاعلة – على كافة المستويات في عملية تدجين المجتمعات واختراقها وتجميد وعيها وضمان عدم فاعليتها مطلقا إن هذا النص لا يكتفي بما يحمله في بعديه السطحي والعميق – من الدلالات والصور المتداخلة بل يتجاوزها ليرسم أبعاد صورة حقيقية لمعاناة المجتمع المسحوق الذي تتسع رقعته يوما إثر يوم ملتهمة مجتمعات الطبقة المتوسطة ومن ثم يصبح التكوين الاجتماعي عبا

قد يعجبك ايضا