حققت الرواية العربية خلال العقود الأخيرة انجازات فنية مبهرة وحضوراٍ كبيراٍ ومكانة بارزة جعلتها في صدارة المشهد الإبداعي العربي وهو ما جعل الناقد الدكتور/ جابر عصفور يطلق على هذا العصر بـ ” عصر الرواية” وذلك من خلال كتابه النقدي الموسوم بهذا العنوان والذي صدر قبل عدة سنوات ومع ما شهدته الرواية العربية من تطورات وتجارب فنية مذهلة أقيمت العديد من المؤتمرات والملتقيات العربية والدولية عن الرواية العربية وقضاياها المختلفة..
ومن آخر هذه الملتقيات ملتقى القاهرة الدولي للرواية العربية والذي أقامه المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة الدورة السادسة والذي أقيم تحت عنوان “تحولات وجماليات الشكل الروائي” وذلك بمشاركة أكثر من200 من الروائيين والنقاد المصريين والعرب وقدمت خلال أيام فعالياته العديد من أوراق العمل والدراسات والمداخلات النقدية والشهادات الإبداعية المختلفة من قبل المشاركين في الملتقى وقد تم نشرها في كتاب صدر عن الملتقى وفيما يلى ننشر ملخصات لهذه الأوراق والمداخلات:
الغرائبية في الرواية الجزائرية الجديدة
سمير قسيمي:
تحاول هذه الورقة تسليط الضوء على ” الغرائبية” كتيمة واضحة في روايات الجيل الثالث في الجزائر سيما الروايات الصادرة بعيد في عام 2009م ولعل أهمها روايات: وصية المعتوه لإسماعيل يبرير “في رواية أخرى” لعلاوة حاجي ” حرف الضباب” للخير شوار و “مملكة الزيوان” للحاج أحمد الصديق الزيواني.
تحمل الرواية الجزائرية – الجيل الثالث – هواجس سردية مختلفة عن تلك التي ميزت جيل التأسيس والجيل الذي يليه
وبالتالي فهي تخوض في مواضيع لم تعرف الرواية الجزائرية من قبل ويكتب وفق تقنيات يبدوا أن انفتاح الروائي الجزائري على التجارب العالمية الأخرى ساهم في ترسيخها . كما لعب الواقع الجزائري سيما في الفترة اللاحقة لما عرف في الجزائر بالعشرية السوداء دوراٍ في التمكين لرواية الجيل الثالث التي تتشارك في عمومها أسئلة تتعلق بشكل واضح بالوجود من دون أن ترقى لتكون اسئلة وجودية . هناك انفصال واضح يريده الجيل الثالث عن هذا الواقع بعد أن فشلت مواجهته عبر كتابات سردياٍ التسعينيات التي وصفها الروائي الجزائري الراحل الطاهر وطار بالروايات المستعجلة ووصفها نقاد آخرون أنها مثلت أسوأ صور الرواية الجزائرية المكتوبة باللغة العربية منذ نهاية السبعينيات.
من هذه الرغبة المشتركة للجيل الثالث من الروائيين الجزائريين بدأت أول ملامح الغرائبية تظهر في كتابات من سبق ذكرهم بشكل خاص إلا أن الملاحظ في كتابات هؤلاء كتابات غيرهم أن توظيفهم للغرائبية ينطلق من الموروث الذي يطبع مناطقهم باستثناء إسماعيل يبرير في وصية المعتوه التي خاضت في الغرائبية بنحو منقطع النظير خصوصاٍ فيما تعلق في المدينة – المكان الروائي – والشخوص وهو ما تحول هذه الورقة تسليط الضوء عليه من دون إغفال بعض جهود الجيلين السابقين من الروائيين الجزائريين ولا جهود الروائيين الجزائريين الذين يكتبون بالفرنسية.
الحدود المراوغة
• سمير مندي:
قبيل نشوب الحرب العالمية الأولى وبالتحديد عام 2914م أصد لمحمد حسن هيكل أول عمل روائي يعده النقاد البداية الحقيقية للقص في مصر وفي العالم العرب بأجمعه . ورواية “زينب” التي أكملت عامها المئة عام (1914م – 2014م) كانت قد ظهرت وسط تحولات اجتماعية وسياسية مرت بها مصر في تلك الفترة . فمن ناحية أخذ الشعور الوطني يستيقظ في نفوس المصريين معلناٍ عن ابتداء ولادة هوية مصرية تريد أن تميز نفسها وسط الهويات المتعددة التي تتنازعها . سواء الهوية التركية أو العربية أو الفرعونية أو حتى ثقافة المستعمر الإنجليزي الذي يقدم نفسه بوصفه صاحب السيادة العسكرية والثقافية . ومن ناحية أخرى أخذت الفنون – بمختلف مستوياتها – تستجيب لرغبة ملحة في مواكبة هذا الشعور الجديد والتعبير عنه على أيدي كتاب وشعراء وموسيقيين معظمهم من الطبقة الوسطى الناشئة ¿ وظهرت أغنيات سيد درويس التي صاغت نفسها من هموم المواطن المصري البسيط كما ظهرت أول قصة قصيرة على يد محمد تيمور بعنوان “القطار” نْشرت عام 1917م للمرة الأولى في مجلة “السفور” المصرية . وأما الشعر فقد كان قد بدأ محاولات التجديد – قبل ذلك بكثير – على يد محمود سامي البارودي.
والملاحظ أن رواية “زينب” أو ما تلاها من اعمال لكتاب رواد أمثال طه حسين الذي أصدر ” الأيام وتوفيق الحكيم الذي أصدر “يوميات نائب في الأرياف” و”عودة الروح” ومحمود عباس العقاد الذي أصدر ” سارة” . أقول الملاحظ أن معظم هذه الكتابات قد قام على عنصر الذات من ناحية وعلى تجربة الرحلة إلى الغرب من ناحية أخرى . قد يعود السبب في ذلك – كما أشار عبدالمحسن بدر – إلى افتقار هؤلاء الكتاب إلى تجارب حقيقية تصلح مادة للقص بخلاف تجاربهم الشخصية التي وفرت لهم مادة خصبة للسرد . وقد يكون السبب رغبة هؤلاء الكتاب – الذين كانوا قد عادوا للتو من فرنسا – في ستر ما يودون كشفه تحت غطاء من السرد الخيالي – لا سيما وأن الغرب الذين يدينون له بالولاء الثقافي والفكري كان قد أحكم قبضته الاستعمارية على البلاد العربية بأكملها ¿ الأمر الذي أثار سؤالاٍ حول مشروعية الاقتداء الفكري بالغرب في ظل استعماره للبلاد العربية . وما إذا كان يجب التفرقة بين الهيمنة العسكرية والتفوق الحضاري.
ومهما يكن السبب فقد بدأ القص رحلته المستمرة حتى الآن باستلهام تجربة الذات . والحقيقة أن القص السيرذاتي كان قد بدأ قبل ذلك بكثير . سواء مع كتاب “تخليص الإبريز في تلخيص باريز “1838م أو كتاب ” الساق على الساق في ما هو الفارياق” أو ” أيام وشهور وأعوام في عجم العرب والأعجام” لأحمد فارس الشدياق الذي صدرت طبعته الأولى في باريس عام 1855م قبل أن تصدر في القاهرة عام 1919م عن مكتبة يوسف توما البستاني . وإذا كان كتاب “تلخيص الإبريز في تلخيص باريز” ليس سيرة ذاتية شخصية بالمعنى الذي ينطوي عليه هذا الحد السردي المراوغ فإنه ينطوي على عناصر السيرة الذاتية التي تجعل من الرحلة إلى الغرب مناسبة سردية لتسجيل وقائع لقاء الشرق المتخلف بالغرب المتقدم من خلال “أنا” هي تارة أنا جمعية تارة أخرى “أنا” فردية . وأما كتاب الشدياق فلا أحد يماري في انتسابه لجنس السيرة الذاتية سواء من حيث انطوائه على تناول الشدياق لنفسه بالوصف والتحليل والسخرية – أحياناٍ – بصراحة لم نعهدها إلا في أعمال قليلة كتبت بعده بعشرات السنين . أو من حيث تصريح الناشر نفسه – ما يعتبره فيليب لوجان ميثاقاٍ سيرذاتي – بنية الشدياق سرد سيرة حياته.
وعلى الرغم من تراكم النصوص السيرذاتية – كما رأينا – في أدبنا الحديث والمعاصر فإن التناول النقدي لهذه لنصوص لم يستطع أن يواكب وتيرتها المتسارعة واستيلاءها على أنواع متباينة من الكتابة . فظهرت لدينا – بعد السيرة الذاتية – رواية السيرة الذاتية . هذا بالإضافة إلى الرسائل والمذاكرات . ناهيك عن النصوص التي لا تصرح بنية السرد السيرذاتية والتي تحتاج إلى القدرة على قراءة الإشارات الدقيقة التي يتركها المؤلف في المتن واعياٍ أو غير واعُ. وسوف تحاول هذه الورقة – من ثم – أن تقدم قراءة للطبيعة المراوغة للسيرة الذاتية بقدرتها على الاندماج المرن في كل أنواع الكتابة . ولطرح نفسها – من جانب آخر – بوصفها المرجع الأول والأخير للنظرية النقدية في وصف حدودها وتبيان مشكلاتها .
تراكب مستويات التقنية في الرواية المعاصرة
• أماني فؤاد:
ترصد هذه الدراسة النقدية ملحماٍ فنياٍ في تقنيات سرد الرواية المعاصرة التي تتبعتها الدراسة في بعض الأعمال الروائية التي يتوالى صدورها حديثاٍ وتتبدى في أن التقنية الواحدة لم تعد تحمل أبعادها المتعارف عليها فقط بل أصبحت تحمل في طرق توظيفها منفردة مستويات متعددة فيها تتراكب آليات تشكيل التقنية وعلاقاتها في المنظومة السردية لعدد من المستويات التي يمكن وصفها بالتداخل المتنوع والمتقاطع وهو ما قد يترك تعقيداٍ نسبياٍ خصوصاٍ فيما يتعلق ببعض مستويات التلقي في ثالوث الإبداع.
في تاريخ المنظومة السردية ظهرت مستويات من التطور في الآليات الفنية: فبعد الراوي العليم المفارق على سبيل المثال وجدنا تقنية (تعدد الأصوات) بما يتيح تنوعاٍ في سردية الرواية من وجهات نظر مختلفة أما الآن فتتداخل مع البولوفينية تنويعات أخرى تمثلت في: أولاٍ – في طرق دفع الأصوات ذاتها وتشكيلها من ناحية ثانياٍ – في تقاطع تقنيات سردية أخرى مع هذا التعدد.
أما في الوقت الراهن فتأتي الكتابة الجديدة لتستخدم التقنيات الفنية ذاتها التي تشكل منظومة السرد الروائي إذ لا سبيل إلى الخروج الجذري الذي يهد أصول النوع الأدبي تماماٍ لكن يتمثل التجديد في استخدام التقنية بتنويعات وأساليب ورؤى جديدة وفي تراكب مستوياتها أيضاٍ وهو ما يصنع تلك الحالة من علو الفن على الواقع بقيوده وعاديته فالفن مناوشة إيجابية وخلاقة مع ما يخلخل الواقع ويعريه ويجعلنا نراه على نحو أخر.
وتشتغل هذه الدراسة على ظاهرة تراكب التقنية وتقاطعاتها في ثلاثة محاور رئيسة:
– محور الزمن.
– محور السرد من حيث الراوي.
– محور اللغة.
وتعتمد شواهد الورقة البحثية على مجموعة من النصوص الروائية التي صدر معظمها حديثاٍ بعد عام 2010م.
كما تتغيا الدراسة تجلية البعد الفكري الفلسفي الذي جعل المبدع المعاصر يلجأ إلى هذه الظاهرة التي تشتغل على التقنية في عدد مستوياتها بما لعبر عن شروخات الواقع وتصدعاته بابتكار تقنيات أكثر تركيباٍ وتعقيداٍ كما هي الحياة الحياة التي لا تفسر – إن استطعنا – إلا وفق علاقاتها المتداخلة المتقاطعة والمتجاورة مع تناقضاتها ولانهائيتها أو في أتساقها مع الوجود الذي أصبح لا يحمل يقيناٍ أو انحيازاٍ لأيديولوجية فكرية أو فنية واحدة منغلقة أو لأن المبدع يستفيد ويمتح من التخييل في إمكاناته المنفتحة بما يمنحه من لذة الحلم وشهوة الكتابة التي تفتح آفاقاٍ تجريبية على الاتساع بالتقنية ذاتها وليس الصورة والمشهد أو اللغة المجازية فقط أو لجعل النص في صورته النهائية يضيف شيئاٍ جديداٍ خارج المتوقع ويجعل كاتبه يكسر أفق انتظار القارئ أو ارتياداٍ لعوالم التجريب التي تظل شغفاٍ وهاجساٍ ملحاٍ لدى كل مبدع حقيقي.
فالزمن إحدى التقنيات الرئيسية في البناء السردي لرواية “الحداثة العليا” يمثل تقنية متسعة تحتمل غواية التجريب ونزقه واللعب الحر الذي تتسع الحركة فيه: ليشمل الحاضر المعيش بالفعل أو جذوره السحيقة ومراحلها وافتراضات مستقبل يْعد نتاجاٍ لتراكمات تشبه الطبقات الجيولوجية للتاريخ لذا يعطي الزمن للروائي مساحة ونسيجاٍ حيوياٍ من أجل التعبير عن رؤاه عبر وسائل متنوعة وأدوات وصيغات فنية متعددة لا تأخذ منحى واحداٍ بل تعدد الاساليب السردية الفنية في صياغته من خلال المفاهيم التي ينطلق منها استيعاب الروائي له بداية من زمن اللحظة حتى الزمن الممتد الواسع في تاريخيته أو التقافز في ذات المفهوم الزمني المحدد فالزمن من أكثر تقنيات السرد غواية من لحظة تمرده ودخوله عوالم التجريب الفني.
وللغة ومستوياتها أيضاٍ وللأشكال الكتابية المأثرة بوسائط التواصل التكنولوجية الجديدة ملامح مميزة في الرواية العربية المعاصرة كما أن العنف والرغبة في هدم كل ما هو موروث من خلال اللغة والثورة عليه صار سمة متواترة لها وجودها المؤثر في الأعمال الجديدة ترصد الدراسة مستويات التعامل مع تقنية اللغة في بعض الإنتاج الروائي الجديد حين يشيطن الروائي المفردة ويسخر من الموروث اللغوي الحامل لكل الموروث المعرفي والقيمي والوجودي السابق الذي لم يقدم الأمان والسعادة للكائن البشري.
ترصد الدراسة تلك التغيرات النوعية وتراكبها لبعض التقنيات وتحلل هذا التطور.