أفكار عميقة ودلالات متعددة

أدين لهذه المجموعة باعتذار.. بالأمس رأيت غلافها أثناء ترتيبي لبعض كتبي.. تصفحت بعض صفحاتها .. أدهشتني بعض النصوص.. وقد خْط إهداء على الصفحة الأولى بتاريخ26/ 3/ 2014.. دهشت إذ كيف يمر ما يقرب من سنتين دون إدراك لوجودها.. في العادة ما إن يهدى إليِ أو أقتني كتابا حتى أتصفح بعض أوراقه لأرى إن كان يستحق القراءة. البلح المر نصوصا مختلفة عما الفت من سرد.. خاصة القصير جدا منها.
ولذلك أكرر اعتذاري لهذه النصوص المدهشة. وأتمنى أن تصل إلى القراء ليتذوق متعتها ليس في المغرب أو الأقطار المغاربية بل القارئ في المشرق العربي .. وكذلك المهتمين بفن السرد.

خلال مشاركاتي في القليل من ملتقيات السرد في مدينة الناظور والبيضاء وقلعة السراغنة والصويرة وخنيفرة على فترات متفاوتة..لاحظت أن المشهد السردي في المغرب متجدد خاصة فن الأقصوصة.. كذلك الحركة النقدية. في الوقت الذي يتمنى من يزور ويشارك في المغرب ردم الهوة الواسعة بين النتاج الإبداعي هناك والقارئ والناقد في المشرق.. فرغم تعدد منابر النشر والتواصل ورقياٍ والكترونياٍ لايزال الأمر بحاجة إلى المزيد من التواصل.
البلح المر.. صادرة في 2014 عن دار الوطن في الرباط. وقد ضمت ما يقارب المائة نص.. توزعت بين قصة وأقصوصة. في 134 صفحة.
بدايـــةٍ:
صْنفت على غلاف المجموع ” قصة قصيرة جدا” أو بمعنى “أقاصيص”.. وفي الحقيقة أنها ضمت بين الأربعين والخمسين نصا في القصة القصيرة جدا “أقصوصة” . والبقية نصوص في القصة القصيرة. قد تتعدد الرؤى حول الحدود الفاصلة بين الأقصوصة والقصة القصيرة.. إلا أن هناك بعض الملامح التي تميز القصة عن الأقصوصة.. فالقصة ما تصل إلى الصفحة أو أكثر كما أن كلماتها تقترب من المائة وأكثر.. إضافة إلى تعدد الأحداث وتناميها.. كما أنها تضم أكثر من شخصية.. وتعالج أكثر من موضوع. وكذلك يبرز المكان والزمان فيها. وخصائص أخرى.
صحيح أن الطول لا يعتد به للفصل بين الأقصوصة والقصة. إلا أن الأقصوصة تعتمد على التكثيف وتأتي في كلمات قليلة جدا.. بل إن بعضها لا يتجاوز السطر أو السطرين.. إضافة إلى أن فكرتها شبيهة بوميض البرق السريع والخاطف ولا يحتمل الفضفضة. وخصائص أخرى لسنا في موضوع ذكرها.
وهذا لا يعني انتقاص أو تمجيد إحداها على الأخرى.. بل هي رؤية خاصة نطرحها ليس إلا.
أذهلتني في البلح المر تلك النصوص القصيرة جدا. مفضلا البدء بقراءة المجموعة من آخر الصفحات.. حيث الأقاصيص. أو ما يروق لي تسميتها بـ الأقاصيد. وسأتناول بشكل مختصر ثلاث نقاط تميزت بها تلك النصوص:
1- خيبات الأمل والقفلات الحزينة.
2- عمق الوصف ومخاطبة الحواس.
3- أسلوب تقديم الفكرة بثنائية السياقات.
وسنختار عدداٍ من الأقاصيص.. كنماذج للحديث حول ذلك وبشكل مختصر جدا:
1- وصال: مشيت نحوك كثيرا..وحين وصلتك.. ظل ظلي هناك..لاهثا تركته.. ولبست ظلك..!
2- رصيف: وجه صغير مدور ..يجر خطاه… فوق الرصيف هناك, متعبة عيناه! يبيع..يبيع..يبيع.. ورد لـ…. عاشقين .. لم يِرياه..
3- أمنية: رسمتْ سلما صاعداٍ نحو القمر..صعدت أدراجه درجاٍ فدرجا.مددت يدي إلى هالة النور..سقط القمر.. بقيت معلقة بين السماء وبيني…!
4- نعِم: رجل دخل المدينة عارياٍ..جائعاٍ.. وحيداٍ… صار كاسياٍ..شبعاناٍ.. وأنجب قبيلة… وحدها المدينة أضحت فقيرة وجائعة!
6- حبل: جهزت غرفتها بما يلزم لاستقبال ملك الموت..كفن.. حنوط .. وعطر صندل.. ارتمت على سريرها وعيناها على السقف.. في انتظار حبل يليق برقبة حلمها…
7- القطار: يمشي القطار ببطء فوق سكة مكمشة, محملا بركاب كأفعى تبتلع فيلاٍ, يهتز كثيراٍ, يتقيأ ركابه! يتقيأ الركاب أمعاءهم… يلعنون القطار جميعهم, ولا أحد يلعن السكة!
8- الحمام: حطت على كتفه حمامة, ظل جامدا… كتم أنفاسه,أغمض عينيه,حبس دقات قلبه…طارت الحمامة وبقي… التمثال!
9- كلب: أيها الكلب,حتى لو لعق حذائي فلن أسامحك!” ظل الكلب في حضن صاحبه, بينما راح هذا الأخير يصب جام غضبه على رجل يكاد يقعي!
10- إرهاب: أدمن العزلة والصمت..الأفكار المتطرفة ظلت تطارده… لذلك سلم نفسه واعترف بأنه إرهابي!
11- عاشق: ظل يرقبها,تداعب كلبها الأجعد الكريه. يلعق الكلب وجهها بلسانه اللزج..تضحك.. تقبله..يقفز..تتبعه. ابتلع غصته..تمدد مكان الكلب,وهو يلعن آدميته!
12- وليمة: أدخل الطفل رأسه الحاوية .. نبش في القمامة .. ثم أخرج رأسه يائسا, يجيل ببصره في الرجاء كمن يبحث عن شيء ضيعه… على الرصيف المجاور كلب يأكل بقايا طعام!
أولا:
اثنتا عشرة أقصوصة “أقصودة”.. تتجلى فيها بوضوح خيبات الأمل.. فبائع الورد طفلا يزرع الفرح في قلوب العشاق دون أن يعيره أحد أدنى اهتمام.. وعادة ما يكون العشاق أكثر كرما وعاطفة وإحساساٍ. لكن النص يصور عكس ذلك.. لنجد أن العشاق فقدوا الإحساس بمن حولهم من بشر وحيوانات وشجر. ويظل الطفل ببؤسه رغم ما يحمل للقلوب المحبة من ورد .. هنا تقدم لنا الكاتبة مشهداٍ غاية الخيبة.
طفل الحاوية هو الآخر تسابقه الكلاب والقطط لالتقاط بقايا الأطعمة من حاويات القمامة ليبيت جائع.في مشهد بائس لا يجد ما يسد رمقه بعد أن سبقته الكلاب إلى الحاوية.
العاشق يتمدد يحاكي الكلب لاهثاٍ آدميته.. يحلم بأن تعامله كما تعامل كلبها.. وهكذا في: إرهاب..نعم.. حبل.. كلب. بل وجل نصوص المجموعة القصيرة والقصيرة جدا تحفل بحزن وخيبات متنوعة يشبه واقعنا.. وهو ما ذهبت إليه الناقدة سعاد مسكين في نبذة قصيرة على الغلاف الأخير للمجموعة نذكر منها “اختارت القاصة دامي عمر القصة القصيرة جدا نوعا سرديا كي تعبر به عن قضايا وهموم الواقع, بشكل درامي موغل في المرارة..” تطرح تساؤلاٍ حول من يصيغ فكرة الواقع ¿ هل هي الكاتبة أم الواقع أم كلاهما¿ أم يخضع ذلك لذائقة الكاتب. ذلك الحزن العميق الذي يتجاوز النص إلى وعي القارئ داعيا له النظر في ما حوله.. تلك النصوص تقدم لنا شخصيات ممن صادفهم كل يوم ونعيش بقربهم.. بل ونتعايش معهم وقد يجد القارئ نفسه أحدها.. وذلك لقدرة الكاتبة على تقديم نصوصها بصدق فني عميق.
الجانب الثاني:
مشهدية الوصف.. وبمفردات قليلة جدا ما يجعل تلك الجمل محكمة البناء.. والكاتبة بذلك تقدم لنا مشاهد نابضة بالإحساس.. ولوحات سردية متباينة الألوان.. ما ذكره الناقد “عمر علوي ناسنا” في معرض تقديمه للمجموعة نقتطف منه “دامي عمر لا تكتب قصصا بالمعنى التقليدي, ولا تخط مسرداٍ مسردنا للحكاية.. بل تمارس الرسم عامدة متعمدة رسم الحكايات وتشكيل القصة” إذا أدوات الكاتبة هي اللغة التي طوعتها لتصف لنا مشاهد هي أقرب إلى اللقطات السينمائية.. أو المسرحي .. وأسميه بالسرد المشهدي. ولم يكن للكاتبة ذلك إلا بامتلاكها قدرة الرسم بالكلمات. وحين نعلم بأنها شاعرة ندر نصف الإجابة فهي تصيغ جملها السردية بحس الشاعرة مقدمة الفكرة بعمق المتصوفة.. ولذلك تتماس نصوصها المشهدية بالنكتة في مفارقتها.. وبالحكمة في عمقها.. وبالشعر في لغته وصوره.. وبالقصة في حكاياتها.. وبالسينما في لقطاتها وبالمسرح في مشاهده.. وكذلك بالتشكيل حين تستخدم الرسم بالكلمات .. كلماتها منتقاة بدقة متناهية. ولذلك يجد القارئ تلك النصوص تخاطب حواسه جميعها.. بل وتتجاوز ذلك إلى ماهو أعمق, إلى الإحساس والعاطفة والمشاعر والتفكير.. مفجرة تلك النصوص عشرات الأسئلة لما تعيشه مجتمعاتنا.
ثالثـــا:
أسلوب إشراك القارئ في تكملة تلك الفجوات”الإبداعية” حين تتعمد الكاتبة كتابة النص بسياقين متوازيين.. سياق مباشر وسياق يكمله القارئ .. ما ينتج معنيين تأتي بأحدهما الكاتبة بشكل مباشر.. و يستنبط القارئ لملء تلك الفجوة التي حددت حدودها, ونأتي هنا بنص عنوانه شك ناسف: زوجة أبيه تصغر أباه ثلاثين عاما, جمالها وسنها يجعل العجوز متسامحا إلى أقصى الحدود, ما حيلة رجل أمام جبروت امرأة كهاته¿ وهؤلاء الصغار الذين يزاحمونه في مال أبيه¿ قد لا يكونون إخوته! … لا أحد منهم يشبه أباه, أو يشبهه… رغم حب والده لزوجته الشابة فهو رجل حكيم, لا بد أنه عرف الحقيقة فقام بما يلزم حماية لنسله وثروته! تسلل إلى غرفة الشيخ, فتح الخزنة وبحث في الأوراق عن وصية أو بيع ينجيه…! وجد فحصا يثبت أن أباه كان عاقرا…
في هذا النص ابتعدت الكاتبة بعض الشيء عن أسلوبها الواصف بدقة للمكان والأشخاص.. وكذلك في نصوص : إرهاب, كلب, نعِم, وصال. وغيرها من نصوص المجموعة حيث تنسج بدراية ووعي خيوط حكاياتها.. تاركة تلك النقاط الثلاث ليكملها القارئ مشاركا في صياغة سياق وعيه بالنص .
فماهو مشهدي تقدمه الكاتبة بلغة واصفة.. وما يحمل فكرة عميقة تحتمل أكثر من معنى تقدمه بلغة ذات دلالات متعددة. وقد يتخيلها القارئ تكتب متخيلة تلك المفردات ومساراتها التي ستذهب بعقل القارئ إلى خلق نص ذهني مواز لنصها المكتوب. فالرجل العجوز كان يدرك ما يدور من حوله وداخل بيته.. وفوق ذلك كان يعيش حياته دون أن ينغص على الآخرين حقهم في الحياة .. ولم يكن يهمه إلى أي ذكر ينتمي الأطفال من حوله.. هي أسرته وكأنه على ظهر سفينة نوح يعيش لحظاته حتى نهاية الرحلة.. تاركا الشقاء لغيره. شقاء التفكير حول ثروته والبحث عن مخارج وحيل للحصول عليها.سياقات سردية تعطي القارئ فيضاٍ من الدهشة.
نص “نعم”. وقد قدمت لنا نموذجا من البشر .. ذلك الفرد الذي قدم إلى المدينة شريدا جائعا.. أضحى من نسله قبيلة ولم يعد فقيرا ..لكن المدينة تفقر وتجوع .. من منا لم يذهب تفكيره لحظات قراءة هذا النص العميق إلى رئيسه أو مليكه.. وقد يتجسد لنا شخصية القذافي.. أو صالح.. أو صدام… وغيرهم من ملوك ورؤساء أقطارنا.
نص يختزل عشرات الصفحات .. مفجرا عشرات الأسئلة باعثا فينا مشاعر متناقضة حول واقعنا.. وهكذا في نص كلب.. إرهاب.. وصال. والعديد من نصوص المجموعة.
ملاحظات أخيرة:
تم ترتيب نصوص المجموعة بادئة بالأطول.. وهكذا سار الترتيب لتنتهي المجموعة بالأقاصيد. وهنا نذكر بأن تقنيات أو أساليب الكاتبة اختلفت من القصة القصيرة إلى الأقصوصة.. وأجزم بأن القارئ سيدرك بأن أقوى النصوص هي التي لم تتجاوز العشرين مفردة.. بل وكلما كان النص قصيرا كان أكثر إدهاشاٍ. وكأن قدرات الكاتبة تتجلى في النص متناهي القصر .
نصوص المجموعة ليست كمثل تلك النصوص التي تْقرأ لمرة واحدة.. بل إن القارئ سيجد نفسه يعود إليها للمتعة والتأمل بين يوم وآخر. فلغتها قوية ومنتقاة جيدا.. كما أن التكثيف بلغ حده الأقصى.. فهناك نصوص لا تحتمل إضافة أو إلغاء مفردة أو حرف.
جْرأة التماس في بعض النصوص بالتابوهات خاصة في نص “أسطورة”.
أمر آخر قدرة الكاتبة على القراءة الإيحائية .. معتمدة على خلق أكثر من نص في النص الواحد. وأكثر من رسالة. إضافة إلى اللعب بالكلمات.. أو ما يسميها البعض الرسم مفرديا.. وهي بصمة تحسب للكاتبة.. وتميزها عن سواها ..
الخيال.. لا شك أن الكاتبة تمتلك خيالا واسعا.. وهذا ما يجعلني كقارئ أقف عند كل نص لأسألها: أي قدرة تمتلكينها أيتها الكاتبة.. وإلى أين تذهبين بنا.. بل وماذا ترين من خلال خيالك الخصب ”
جانب آخر مهم وهو ذلك العمق الفلسفي الذي تحمله معظم نصوص المجموعة خاصة الأقاصيد منها.. إضافة إلى مسحة التصوف الشفيفة بين نص وآخر.
الأجمل أن نصوص المجموعة تبذر فينا الأسئلة فقط ولا تضع أجوبة.. لنحصد تأملاٍ بواقع نعيشه. تلك النكهة الساخرة.. نعم ما يجعل شفاهنا تبتسم بين نص وآخر. ليست سخرية مبتذلة بل تلك التي تقود في بعضها إلى مرارة الألم. والتعمق في التأمل.
ولم تبخل الكاتبة في العديد من النصوص في أن تلونها بجمل الوجد.. ليتباين أسلوبها في أكثر من نص مقدمة نصوصا عاطفية عذبة قد تبتعد عن السرد ولا تنقطع عنه كنص بعنوان”المقاعد المتقابلة”.
وختاما هناك نصوص طرزتها الكاتبة بمتواليات مشهدية غاية في الدهشة مثل نص”ميتامورفوز” والذي تكون من ثلاثة على شكل متواليات .ونص “مسافة” وغيرها من النصوص المركبة مشهديا.
في هذه المجموعة التي تنبئ بوجود مبدعة كبيرة تمتلك القدرة على تقديم النص المختلف.. والجديد مبدعة أتمنى أن يلتفت لنصوصها النقاد.. وأن تصل إصداراتها إلى أفق واسع من القراء. كنصوص تستشرف آفاق التجديد في النص السردي القصير جدا.

قد يعجبك ايضا