ويكبر اللاشيء وتتسع جدران هذا العالم الفارغ وتذوي الأحلام وتضيق اللغات بالرؤى الحقيقية ويتجذر الصمت في المكان ويرتدي الضجيج المفرغ منه واجهة الزمان .. يكثر فعل التصارع ويتضخم الاسم المثقل بنقاط الحدث وينبثق الخبر من ذات المبتدأ .. تتغير ملامح الكائنات لا كما نريد .. كل شيء في غير موقعه الذي ولد من أجله ليس هنا إلا نحن ومعركتنا مع أسئلة مقنعة بتوقعات عجاف الخطر يبدو أقرب إلينا منا وبصيص الأمل لم يعد إلا مؤشرا˝ تقريبيا˝ لطبيعة الموت العادي تكثر الفواصل الاعتباطية التي تجدد لوترية الحياة . ليس العيب في مثل هذه الفوضى اللفظية و الفكرية المتراكمة إنما في اختلال قدرة إنسان هذا العصر على الانسجام لسلطة اللاوعي والعجز عن التعايش مع حقيقة المستقبل المرة.
يؤسفني- وأنا شاب” أطرق أبواب الثلاثينيات من عمري- أن أحمل شعور رجل مسن وأشاركه في عدم الترقب والاهتمام لما يستجد في الحياة ولمصير الأمم ليس لأني لا أرغب في ذلك بل لأن حتمية عدم الجدوى من الاهتمام مفروضة على الجميع ولأن الاحتكاك بما حولي يقضم أحلامي ويرميها أشلاء˝ تبدو لي في لحظة تأمل مهملات تشكل عبئا˝ يزعج من لا يحلم ولا يخطط لتحقيق أهداف تثمر بالأثر الذي يتركه وراءه ليجني فائدته من يتبع خطاه .
أتذكر من طفولتي أني كنت مشاغبا˝ ليس من أجل إزعاج الأخرين أعتقد أن ذلك كان من أجل أن ألفت نظر كل من حولي وهدفي من ذلك أن أخبرهم أني أحمل أحلاما˝ أكبر مني لعلي أجد من يمتدحني لتطلعاتي إلى مثل هكذا أحلام.. يؤلمني كثيرا˝ أن أجد أحلامي منثورة بين شوك لا أستطيع أن ألملمها وكأني في موقفي هذا وبحلمي المشتت أشبه حظ الشاعر الذي قال :
إن حظي كدقيق
يوم ريح نثروه
ثم قالوا لحفاة
بين شوك أجمعوه
ما يبعث بداخلي قليلا˝ من الاطمئنان هو أني لست الوحيد الذي يشكو من هذا التشتت ولست الوحيد الذي يحمل حلما˝ أكبر من هذا العالم الضيق كزقاق في المدينة لايتسع لهبة ريح محتشدة .. هناك الكثير من حطام الطموحات على رصيف لايرحمه برد الشتاء ومن الآمال العالقة في البداية لا تستطيع أن تنظر إلى ما بعد مخافة السقوط قبل البدء لازالت تترجى ريشة˝ ترسم ابتسامة˝ لتكون إشارة˝ للعبور.. ربما هناك من سيعبر قد لا أكون أنا المهم أن يعبر أحد أمثالي بسفر الأمل لعله يلتفت يوما˝ إلى ما وراءه ليواسي هذا البؤس المتكدس ويعيد شكل الطريق المهترئة ويترك عليها أثرا˝ يتتبعه نورس” وقصيدة” وغمامة” .
لن أكابر أو أتظاهر بأنني مثالي في الصبر أو أن تواضعي الزاهد لا يبرز أهميتي أو مكانتي في المجتمع بما أتمتع به من ملكات تفكيرية أو ثراء معرفي يؤهلني لأن أكون شخصية مرتقبة .. لقد مللت الوهم كما مل هو بذخه في هذا العالم الهش الحقيقة مؤلمة لكن يجب الاعتراف بها لعل لفتة كونية تعيد صياغتها كما يجب .
حتى أنا أتهم ذاتي بالتذمر في متاهات هذه السطور وليس هذا الأمر غريبا˝ ما دمت أنا جزءا˝ من هذا العالم الذي يعاني من الانفصام في طبيعته الحياتية .. وعلى افتراض أن تلك التهمة لصيقة” بي فأنا واثق” أن ذلك ليس على سبيل انتظار الاحسان إنما لأن حلمي كبير وفي ربيعه وأيضا˝ فإن عبارة (سأصير يوما˝ ما أريد) للشاعر الفلسطيني/ محمود درويش تسكنني وتشعل بداخلي كثيرا˝ من الطموح والأمل والأماني التي تشكل إنسانية الحياة .