ما كنتْ قد قرأتْه عن محمية الحسوة بمدينة عدن لا يْمثل شيئاٍ بجانب ما رأيتْه من جمالُ يخلب الألباب وطبيعة بكر تشتاقها الأنفْس وتلذ بمرآها الأعين خاصةٍ في مكانُ يخلو من المتنزهات الطبيعية والأشجار الكثيفة.
وما زاد من جمال محمية الحسوة أنها واحة غناء ذات أشجار باسقة ومياه جارية وذات تنوع نباتي بديع في قلب مدينة عدن التي تفتقر لمثل هذه البيئة الفريدة.
حين قررتْ الذهاب لمحمية الحسوة في أول مرة كنتْ برفقة مجموعة من الزملاء الشعراء والأدباء الفائزين بجوائز رئيس الجمهورية أثناء ملتقى الإبداع الثاني الذي احتضنته كلية الآداب بجامعة عدن أواخر عام 2008م.. وقد خرجنا من كلية الآداب في خور مكسر متجهين غرباٍ حتى وصلنا إلى محمية الحسوة التي تقع على طريق البريقة بالقرب من مدينة الشعب التي كانت يوماٍ ما مقر السلطة التشريعية قبل الاستقلال.
ولأن بيئة عدن جافة وصخرية من جهةº وشبه صحراوية من جهة أخرى فقد هالنا ذلك الكم الهائل من التنوع النباتي المطل على البحر مباشرةٍ والذي تتخلله الكثير من المياه والبحيرات والأزهار فضلاٍ عن المواشي المتنوعة والطيور المستقرة والمهاجرة التي تجتذبها تلك البيئة الفريدة.
رأينا طيوراٍ نادرة لا يمكن رؤيتها في عموم اليمن إلا في محمية الحسوة ورأينا الجمال والأبقار والأغنام وهي ترعى في واحات تشبه إلى حد كبير واحات نيوزيلندا وهولندا.
وكم كان رائعاٍ ذاك المبنى الصغير الذي يمتد لعدة أدوار في قلب المحمية ويْسهل للزائر الاشراف على المحمية من علوُ يمكنه من مشاهدة أكبر قدر من جمال المحمية ناهيك عن الاستمتاع برؤية مدينة التواهي ومدينة المعلا والميناء من الجهة المقابلة والتمعن بجبل شمسان من ضفاف الشط المواجه.
كانت لحظات تساوي بمتعتها كنوز الدنيا ولم يعكر صفوها سوى استعجال الزملاء الذين كانوا يودون العودة للغداء وشراء القات.
حزِ في نفسي ذلك وآليتْ على نفسي أن أكرر تلك الزيارة لهذه المحمية الغناء وقدرِ اللهْ لي ذلك في تاريخ 10/2/2011م بالضبط وكان يوم خميس. وهو اليوم الذي سبقِ تنحي رئيس جمهورية مصر السابق حسني مبارك عن الحْكم واندلاع انتفاضة الشباب في اليمن بنفس اليوم11/2/2011م. وكان ذلك يوم الجْمعة الذي كان قد أعلنِ الحراك الجنوبي قبلها بأسبوع أنه سيكون يوم الغضب.
هذه المرة أو في الزيارة الثانية لمحمية الحسوة كنتْ بمعية أولادي وحاولتْ الاستمتاع معهم قدر الإمكان ولأنتقم من حرمان أصدقائي في الزيارة السابقة.
أتيناها ولدينا الرغبة التامة والعارمة للاستمتاع بكل ما تحويه المحمية من نفائس طبيعية حيث تشكل موئلاٍ طبيعياٍ للعديد من الكائنات الحية التي بحاجة إلى حماية. وهناك العديد من النباتات والأعشاب النادرة التي تتميز بها المحمية وهي بحاجة إلى حماية أيضا في إطار الاستغلال الأمثل والعقلاني للموارد الطبيعية والعمل على خلق فرص عمل دون الإضرار بالبيئة الطبيعية للمحمية.
وما أجملِ ما وصفها به أحدْ الزائرين من أبناء عدن نفسها حيث قال:
“خلال جولتنا الممتعة بين أروقة الحشائش والنباتات والأشجار الباسقة والمتطاولة في البنيان لم تتوقف أيدي مصورنا الجسور في الكف عن التقاط الصور من جميع الزوايا والأحجام لما رأته أعيننا وسلب عقولنا لسحر الطبيعة والروائح الفواحة المنبعثة من أريج وعبير الزهور الندية وبساتين الفل والياسمين المدلاة من فوق هاماتنا. وكنا نستمع لنسمات الهواء العليل التي مافتئت تدغدغ وجنات وجوهنا. بالفعل هي جنة موجودة أمام أعيننا ونحن للأسف لا نذهب ونشبع أنظارنا بجمالها الأخاذ والمتمثل برقرقة المياه الجارية والحشائش من كلا الجانبين لوحةَ أبدعِ الرحمنْ في رسم خطوطها.
كنا نرى الأخضر يحتضن اليابس والسماء تشهد على ذلك. والطيورْ لوِنِتú بأجنحتها المزخرفة سماءِ المكان كأنها مجاميع من البشر تحتفي بعرس كرنفالي تشهده تلك البقعة الواقعة بين كفتي مدينة عدن الساحرة”.
لكننا رآينا ما فاقِ هذا الوصف حين مكثنا تحت الأشجار الباسقة والأطفال يلعبون بالمدرهات التي نْصبِت بين جذوع أشجار النخيل الشامخة واستمتعنا أكثر بالكراسي التي تم صناعتها من خامات البيئة المحلية والتي تعكس جمالاٍ أخاذاٍ للمحمية وتشكل حفاظاٍ على بيئتها الطبيعية من التلوث.
ومن أجمل ما أعجبنا هو هدوء المكان وميل زائريها إلى الهدوء والسكون في أحضان تلك الطبيعة التي تنقل ساكني مدينة عدن من بيئتهم إلى بيئة مغايرة تماماٍ وكأنهم في بلادُ خارج اليمن.
وتعتبر رحمة من الله لساكني عدن حيث تكون متنفساٍ طبيعياٍ على مدار العام لمن لم يستطع منهم السفر خارج محافظة عدن. وفي نفس الوقت عامل جذب سياحي من الطراز الأول للسياح من داخل الوطن وخارجه. وقلِ أنú يأتي زائر أو سائح لمدينة عدن ولا يمر على محمية الحسوة التي ازدادتú أهميتها بعد بناء الفنادق والمدن السكنية الحديثة بالقْرب منها. ما جعل الأنظار تتجه لها أكثر من ذي قبل.
كانت قمة السعادة بالنسبة لي وأنا أرى أطفالي وأطفال الآخرين وهم مندهشون بتلك الأشجار والنباتات والعشب الأخضر المبتل بمياه الأراضي الرطبة وتدفق المياه في بعض جوانب المحمية حيث تلتقي العصافير بالزهور التي تزين المكان ليبدو في أجمل صورةُ خلقها الرحمن.
حين شاهدتْ العديد من الأْسر التي جاءت بكل لوازم قضاء يوم سعيد في أحضان الطبيعة من ماء وأكل وفراش أحسستْ بسعادة بالغة أن أبناء عدن لا يزال لديهم متنفس يلجأون له من صخب الحياة بعد أن ضيقِ عليهم النافذون في كثير من الأماكن التي استغلوها أبشع استغلال بعيداٍ عن نمط البناء والتخطيط الحضري ما أضفى على مدينة عدن صوراٍ بائسة لا تمت لعدن الجميلة والوادعة بصلة.
ودعتْ محمية الحسوة للمرة الثانية ولا يزال القلبْ متعلقاٍ بها ولديه العزيمة لزيارتها في أقرب فرصة سانحة بإذن الله.