عندما يكون التنبؤ المزعج… أداة للبقاء

د.سامي عطا

 

 

الدراسات النقدية والتحذيرية، سواء ارتضينا نتائجها القاتمة أم لم نرتضِ، تحمل في طياتها قيمة حيوية لا يمكن إنكارها، إنها تُشْبه ” ناقوس الخطر ” الذي يدق قبل فوات الأوان، مُحَذِّراً صانع القرار من المطبات المستقبلية، ومُلقياً الضوء على سيناريوهات محتملة قد يغفل عنها، وذلك بناءً على معطيات بحثية دقيقة.
غير أن هذه الأبحاث، خاصة تلك التي ترسم صورة قاتمة للمستقبل أو تتنبأ باضطرابات كبرى، كثيراً ما تثير سخط السلطات وأنصارها.
وهذا الاحتقان يتضاعف في ظل أنظمة ” إنكارية ” ترفض جوهرياً فكرة سماع الرأي المخالف، وتتعامل مع أي نقد على أنه هجوم شخصي أو تهديد للأمن القومي، لا كمساهمة في التخطيط الاستباقي.
ويمكن أن نشير إلى حالة دراسة، ” السقوط الوشيك” للممالك الخليجية، حيث تُعد دراسة الباحث البريطاني كريستوفر ديفيدسون، التي نُشرت عام 2012 تحت عنوان ” ما بعد الشيوخ، الانهيار القادم للممالك الخليجية “، نموذجاً صارخاً لهذا النوع من الأبحاث المثيرة للجدل.
فبعد عام واحد فقط من ” الربيع العربي “، قدم ديفيدسون تحليلاً قاسياً لنموذج الحكم ” الريعي ” في الخليج، القائم على توزيع عوائد النفط مقابل الولاء السياسي، ووصفه بأنه ” غير مستدام “.
وتوقع أن تؤدي مجموعة مترابطة من التحديات إلى زعزعة استقرار هذه الدول، وربما انهيار أنظمتها التقليدية خلال عقود قليلة.
ولقد حصرت هذه الدراسة التحديات في:
1 ـ التحدي الاقتصادي:
نضوب الموارد النفطية على المدى الطويل، وفشل محاولات التنويع الاقتصادي الحقيقية، والانفجار السكاني، وارتفاع بطالة الشباب، واستنزاف الثروة عبر مشاريع ضخمة غير منتجة أو بسبب الفساد.
2 ـ التحدي الاجتماعي والسياسي:
صعود طبقة وسطى متعلمة تطالب بالمشاركة، وبروز جيل شاب متصل بالعالم ويتطلع للإصلاح، واستمرار القمع الأمني بدلاً من التطور الدستوري والمؤسسي.
3 ـ التحديات الأمنية :
تهديدات الجماعات المتطرفة، وتقلب التحالفات والمواقف الدولية وخاصة الأمريكية.
4 ـ تحديات داخل النخبة الحاكمة:
الصراعات على السلطة والثروة داخل العائلات المالكة، وعجز آليات ” الشورى ” التقليدية عن استيعاب مطالب العصر.
وبناءً على ذلك، وضع ديفيدسون سيناريوهات مرعبة للتغيير، تتراوح بين ثورات شعبية أو انقلابات عسكرية، أو إصلاحات جذرية سريعة من القمة، أو حتى تفكك اتحادات أو اندماج ممالك.
كيف كان رد الفعل؟ الدراسة دقت ناقوس الخطر …
لكن الأذن هربت من الصوت.
على الرغم من الطابع التشاؤمي والحتمي الذي ميز الدراسة، فإنها دقت ناقوس خطر عالي النبرة.
ويمكن تفسير كثير من السياسات الإقليمية التي تلت نشر الدراسة، من منظور أنها ردود أفعال ( وإن لم تعلن ) على هذا التحذير.
فجهود إجهاض ” الربيع العربي ” واحتوائه، والسياسات القمعية تجاه قوى المعارضة داخل هذه الأنظمة الوراثية والسياسات العدائية تجاه ( جماعة الإخوان المسلمين ) بسبب الربيع العربي، وتغذية الحروب الأهلية في بعض البلدان العربية، يمكن قراءتها كنوع من ” الحرب الدفاعية ” الاستباقية لهذه الأنظمة، ووسيلة لتقديم نفسها كبديل ” مستقر ” أمام نموذج ” الفوضى الجمهورية “.
لكن هذه السياسات، وإن حققت أهدافاً آنية في الحفاظ على الوضع الراهن، تحمل في ذاتها بذور أزمة جديدة.
فهي اعتمدت على تبذير ثروات طائلة في مشاريع خارجية مكلفة وغير منتجة (حروب، دعم أحزاب، إعلام ).
واستمرار هذه الفوضى وتضاعف الإنفاق عليها قد يؤدي إلى عجز مالي، وسينعكس حتماً على الأوضاع الداخلية لهذه الممالك، مسبباً المشاكل التي حذرت منها الدراسة ذاتها.
وعليه فإن خلاصة ما تقدم يطرح ضرورة الاهتمام بقيمة أي دراسة تنبؤية، حتى لو لم يُصِب تماماً.
وتكمن الفائدة الجوهرية للدراسات النقدية، مثل دراسة ديفيدسون، في قدرتها على رفع مستوى الوعي بالتحديات بصورة منهجية.
وهي تدفع صانع القرار – إذا كان عقلانياً ومنفتحاً – إلى أخذ المخاطر على محمل الجد، واتخاذ إجراءات وقائية.
هذه الإجراءات قد لا تكون دائماً جوهرية أو ناجعة، وقد تهدف فقط إلى ” تأجيل ” السيناريو الكارثي ( كما يبدو الحال في الخليج )، لكنها مع ذلك تشتري وقتاً ثميناً.
لذا، فإن الحكمة لا تكمن في رفض أو قمع هذه الدراسات لمجرد أنها ” مزعجة “، بل في التعامل معها بعقلانية.
تحتاج المجتمعات إلى صانع قرار يقرأ، ويتابع، بل ويدعم – ضمن آليات مؤسسية – جهود الباحثين ومراكز الأبحاث الجادة.
لأن ناقوس الخطر، حتى لو كان صوته صادعاً، قد يكون المنبه الوحيد الذي يوقظنا قبل أن يتحول الخطر إلى كارثة حقيقية لا مرد لها.

قد يعجبك ايضا