في كل عام يحل الثلاثون من نوفمبر، لا بوصفه تاريخاً على صفحة التقويم فحسب بل كجرس يوقظ في الذاكرة اليمنية تلك اللحظة التي ظن الناس أنها بداية الخلاص.
كان يوم الجلاء وعداً بالحرية تتسع فيه الأرض لأحلام جيل ظن أن الشمس قد كتبت له ولادة جديدة وان الاستعمار قد غادر بلا رجعة تاركاً خلفه فضاء مفتوحاً لبناء وطن كريم.
غير أن الطريق من الاستقلال إلى اليوم لم يكن معبداً بالآمال نفسها التي زرعت ذات صباح بل كان ممزوجاً بخيبات متراكمة وبأسئلة أثقل من قدرة الناس على حملها، فاليمن الذي خرج من باب الاستعمار دخل، بعد عقود قليلة من نوافذ أخرى إلى دوائر استغلال اشد مراوغة.
تبدلت الوجوه وتغيرت الشعارات لكن المواطن البسيط بقي واقفاً في المكان ذاته يراقب وطنه يتقاسمه النفوذ وتنهشه الصراعات وتغتاله الحسابات الضيقة. كأن البلاد التي حلمت بأن تكون سيدة قرارها أصبحت رقعة شطرنج يتحرك فوقها اللاعبون الكبار فيما يبقى الشعب خارج اللوحة يصفق لانتصار لم يصل إليه أو يبكي هزيمة لم يكن سببها.
لم تكن السنوات التي تلت الاستقلال مجرد مسار سياسي متعرج بل امتحانا لطاقة اليمنيين على الصبر. انطفأت مشاريع التنمية قبل أن تكتمل وتراجع صوت الإنسان أمام ضجيج السلاح وصار الاقتصاد جسراً يمر فوقه كل طامع. ومع كل منعطف جديد كان السؤال يعود أكثر قسوة: هل خرج المستعمر حقاً أم أنه عاد بوجوه أخرى وبطرق اشد فتكاً؟ لقد كان الاستقلال حلماً نبيلاً لكن الهشاشة التي أعقبته جعلته فريسة لمن يمتلك القوة لا لمن يمتلك الحق.
ورغم كل ذلك.. يبقى هذا اليوم مناسبة للتأمل لا لليأس. فالأمم لا تقاس بعدد العثرات التي تواجهها بل بقدرتها على النهوض من تحت الركام. والذاكرة الوطنية ليست صكاً للحنين فقط بل نافذة للوعي تذكر اليمنيين أن الحرية لا تعطى مرة واحدة وان الاستقلال ليس حدثاً ينتهي بل مساراً يتجدد كلما قرر الشعب استعادة صوته.
إن الثلاثين من نوفمبر لا يطالب اليمنيين بالبكاء على أطلال الماضي بل بدق جرس الحقيقة: أن الوطن الذي يستغل لا يمكن أن ينهض إلا حين يستعيد الناس دورهم ويعيدون توجيه البوصلة نحو مصلحة البلاد قبل مصالح الساسة. ولعل ما يخفف وطأة هذا اليوم أن الروح اليمنية ما تزال قادرة على المقاومة وما يزال القلب الشعبي يعرف طريقه إلى الأمل مهما كبرت الجراح.
في ذكرى الجلاء، تبدو اليمن اليوم كمن يقف على حافة مفترق طرق لكنها ما تزال تملك القدرة على اختيار الطريق الذي يليق بتاريخها. وبين الاستقلال الذي كان والاستغلال الذي يحاول ان يفرض نفسه يبقى الرهان على وعي الشعب وإرادته فهما وحدهما القادران على تحويل هذه الذكرى من مناسبة للحسرة إلى بداية حقيقية لاستعادة الوطن.
