تحل علينا ذكرى الثلاثين من نوفمبر، يوم الجلاء العظيم، ليس مجرد تاريخ في الذاكرة، بل هو قصة شعب أبيّ، سطر بدمائه الزكية أروع ملاحم التضحية والفداء، ليعلن للعالم أجمع أن اليمن، بتاريخه وجغرافيته، مقبرة الغزاة، وعصي على أن تدنّسه أقدام محتل.
لقد أثبتت جغرافية اليمن، بتضاريسها الوعرة وجبالها الشاهقة، على مر العصور، أنها درع الوطن الحصين. فاليمن لم يتقبل الاحتلال يوماً، بل لفظ كل أشكال الغزو، من الأحباش إلى العثمانيين، وصولاً إلى أعتى قوى القرن العشرين، الاحتلال البريطاني. هذه الطبيعة الجبلية الساحرة، والتي تبدو كأنها خُلقت لصد الغزاة، كانت خير معين لـالمناضلين الأحرار الذين اتخذوا من كهوفها وسهولها جبهات قتال، مُسقطين أسطورة القوة التي لا تُقهر.
إن التاريخ اليمني، المليء بالثورات والانتفاضات، يعلمنا أن روح النضال والفداء متجذر في هذا الشعب، توارثه جيلاً بعد جيل. ولم يكن جلاء 30 نوفمبر 1967م إلا تتويجاً لنضالات عظيمة بدأت شرارتها منذ عقود، وتوهجت بـثورة 14 أكتوبر، لتجبر المحتل البريطاني على حزم حقائبه والخروج ذليلاً من عدن وبقية المحافظات الجنوبية، تاركاً وراءه شواهد على هزيمة تاريخية.
في كل احتلال، تتشابه جرائم التنكيل والغطرسة، لكن تختلف الأدوات والأهداف. إن المقارنة بين المحتل البريطاني القديم والاحتلال السعودي الإماراتي الجديد (تحالف العدوان)، تكشف عن استمرارية في الجريمة وتطور في الوحشية.
وخلال فترة حقبة البريطاني التي استمرت قرناً ونيف تعددت أنواع الانتهاكات، حيث اعتمد البريطانيون على القمع المباشر، السجون السرية، التعذيب الوحشي في معسكرات مثل “سجن الزهرة”، والاغتيالات السياسية للقيادات الوطنية وكان تركيزهم على نهب الثروات، تقسيم الجنوب إلى “سلطنات” لزرع الفتنة، وتجهيل الشعب لضمان استمرار السيطرة على المواقع الاستراتيجية كـعدن. كان الاستعمار واضحاً في صورته التقليدية.
فيما اعتمد المحتل السعودي الإماراتي (اليوم) العدوان والحرب بالوكالة، حيث تجاوز الاحتلال السعودي الإماراتي الجديد مفهوم الاحتلال التقليدي إلى عدوان شامل باستخدام أحدث آلة للحرب ضد البنية التحتية، المستشفيات، والمدارس.
حيث أخذت الجرائم هنا بعداً أوسع من خلال الحصار الذي تسبب في أكبر مجاعة في العالم، والقصف العشوائي بالطائرات الموجهة أمريكياً وإسرائيليا، وزرع الفوضى والاقتتال الداخلي عبر تشكيل مليشيات مسلحة متعددة الولاءات.
بالإضافة إلى الإجرام في تدمير الهوية الوطنية، وتغيير المناهج، وإثارة النعرات الإقليمية (الشمال والجنوب)، ونهب الثروات السيادية (النفط والغاز) بشكل علني ومُمنهج. كما برزت عمليات إنشاء سجون سرية المُدارة من قبل مليشيات المحتل في المحافظات المحتلة، وممارسة التعذيب الذي لا يقل فظاعة عما مارسه المحتل البريطاني، بل ربما يتجاوزه في ظل الغطاء الدولي الممنوح.
إن الدروس المستخلصة من يوم الجلاء، تعلمنا أنه لا قوة في العالم، مهما امتلكت من مال وسلاح، تستطيع كسر إرادة شعب يمني موحد على هدف التحرر، اليوم يواجه اليمن محتلاً جديداً يسعى لتقسيمه وإخضاعه، لكن روح نوفمبر لا تزال حية.
هذا الشعب الذي طرد الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، سيكون له حتماً موعد جديد مع الفجر، موعد يسدل فيه الستار على حقبة العدوان والاحتلال الجديدة. وكما كانت جبال ردفان وشواطئ عدن شاهدة على هزيمة الأمس، سيكون كل شبر من أرض اليمن شاهداً على تحرر جديد وعودة للسيادة والكرامة.
الجلاء الأول كان بداية، والجلاء القادم سيكون تتويجاً لإرادة يمنية لا تعرف الانكسار.
*محافظ عدن
