لم تكن دعوات بعض اللبنانيين، أو شريحة وازنة منهم، إلى التطبيع مع إسرائيل حدثًا طارئًا أو مستغربًا؛ فهذه الأصوات ارتفعت منذ اللحظة الأولى لولادة الكيان العبري عام 1948م، بل سبقت ذلك إلى ما قبل نشوء لبنان الكبير نفسه.
ويوثّق كتاب «المتاهة اللبنانية» بدقّة مسارات العلاقة بين الحركة والوكالة الصهيونية وشخصيات لبنانية معروفة، في سياقٍ امتدّ من اتصالات سرية إلى محطات كاجتياح 1982م واتفاق 17 أيار وما تلاه من مراحل معلنة ومضمرة تصبّ في الاتجاه ذاته.
أما في الأشهر الأخيرة، فقد شهدت الساحة اللبنانية ما يشبه تنفيذ «أمر عمليات» سياسي وإعلامي موجّه بوضوح نحو تهيئة الأرضية ليس فقط لتبرير التطبيع، بل لاستجدائه وتسويقه كخلاصٍ يتقدّم على كل الاعتبارات الوطنية والسيادية.
وكانت الأدوات المستخدمة في هذا السياق على درجة من الانحدار السياسي والإعلامي لا تخطئها عين.
وهذا كلّه يعيد تأكيد حقيقةٍ جوهرية: قضية سلاح حزب الله ليست سوى الذريعة الذهبية لفتح أبواب الاستسلام الشامل أمام المشروع الإسرائيلي، إنها ليست خلافًا على السلاح… بل على هوية لبنان وموقعه ومصيره.
فالتهديدات الإسرائيلية المتكررة بفرض حرب مدمّرة تحت شعار «نزع السلاح» تأتي عمليًا في سياق فرض تطبيع مُذِل بالقوة وبالمعادلة الإسرائيلية الكاملة.
ولن يغيّر أحد حقيقة يعرفها القادة العسكريون قبل غيرهم: لا سلاح مقاوم نُزع بالقوة في التاريخ الحديث، ولا تجربة حرب – من لبنان إلى غزة أثبتت قدرة إسرائيل على فرض هذا الهدف بالقوة مهما عظُم الدمار.
وجاء بيان رئاسة الجمهورية اليوم عن مشاركة السفير سيمون كرم في اجتماع «الميكانيزم» ليشكّل حلقة إضافية في سلسلة طويلة. وهو ليس صدمة كما جرى تصويره، لكنه أيضًا ليس محطة عابرة.
فالمسار الذي تدفع نحوه الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل، ومعهما جزء من السلطة اللبنانية، يتجاوز التنسيق الأمني نحو تطبيع سياسي علني ومباشر، لا يقتصر على التزامات القرار 1701 أو اتفاق الهدنة لعام 1948م.
وقد أعلن الرئيس عون منذ أكثر من شهر ضرورة التفاوض المباشر مع إسرائيل لحلّ الملفات العالقة: تحرير الأسرى، وقف الاعتداءات، وإنهاء الاحتلال.
لكن الرد الإسرائيلي أتى على شكل توسّع في العدوان، وصل حدّ انتهاك أجواء القصر الجمهوري نفسه.
ورغم ذلك، لم يتراجع عون قيد أنملة بعدما استقرّ لديه – وفق ما يردّده أمام زواره – أن لبنان «لا قدرة له على أي مواجهة»، وأن المجتمع الدولي يفرض عليه شروطًا لا مهرب منها تحت طائلة العزلة الكاملة.
ويعزّز الرئيس قناعته بدعوى أن حزب الله انتهى عسكريًا بعد عام على وقف الحرب، وأن بقاء سلاحه بات عبئًا لا ورقة قوة، مستندًا إلى عمليات القصف والاغتيالات اليومية التي تطال الحزب.
ويستنتج عون ومعه نواف سلام وعدد من القوى السياسية أن اللحظة مؤاتية لتنفيذ الشروط الأميركية – الإسرائيلية بدل مواجهتها، معتبرين أن الحزب عاجز عن الردّ، وأن ميزان القوى انكسر لمصلحة إسرائيل.
حتى أن بعض المراقبين يرون في خطوة عون محاولة لتجميد اندفاعة سلام، الذي يُقال إنه كان مستعدًا لو تُرك القرار له لإرسال وزيري الخارجية والدفاع إلى تل أبيب مباشرة، لا إلى الناقورة، ولإصدار أوامر للجيش بنزع السلاح بالقوة، استنادًا إلى تجارب سابقة وسياقات سياسية يعرفها الجميع.
والحقيقة أن خطوة عون ليست وليدة ساعتها، بل نتيجة اتصالات وحسابات داخلية وخارجية امتدت لشهرٍ وأكثر.
لكنها رغم ذلك لا تضمن ردع أي تصعيد إسرائيلي، ولا تكفل أن تكتفي واشنطن بهذا التنازل، ولا تمنع فرض تنازلات إضافية قد تكون أثقل وأخطر في الأيام المقبلة.
إن لبنان اليوم يقف على مفترقٍ حاسم: فإما أن يختار طريق الرضوخ المُنظّم الذي يُفرض عليه تحت ضغط الاقتصاد والجوع والتهديدات، وإما أن يعيد بناء معادلة القوة التي حمت حدوده وكرامته لعقود.
والمعادلة التي يريدها البعض – تطبيع مقابل البقاء – ليست سوى وصفة لتصفية آخر عناصر القوة في لبنان وتحويله إلى ساحة مفتوحة بلا سيادة ولا قرار.
إن ما يجري اليوم ليس نقاشًا لبنانيًا – لبنانيًا، بل معركة على روح لبنان:
هل يبقى بلدًا مقاومًا يرفض الإملاءات؟ أم يتحول إلى دولة مُلحقة بالمنظومة الإسرائيلية – الأميركية، تُساق نحو «سلام» يشبه الهزيمة؟
الأيام المقبلة وحدها ستكشف أي لبنان سيولد من تحت الركام: لبنان الواقف… أم لبنان الراكع.
* كاتب لبناني
