عادل حويس
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الاقتصاد العالمي باتت الدول أكثر إدراكا أن أمنها الاقتصادي لا يتحقق بالاعتماد على الأسواق الخارجية وحدها ولا بالاستيراد طويل المدى بل ببناء قاعدة صناعية محلية قوية وقادرة على المنافسة، ومن هنا يبرز توطين الصناعة بوصفه ركيزة استراتيجية لا مجرد خيار تنموي، إذ يمثل خط الدفاع الأول لحماية الاقتصادات الوطنية من تقلبات السوق العالمية ووسيلة فعالة لصناعة النمو المستدام.
لقد كشفت الأزمات العالمية المتعاقبة من اضطرابات سلاسل الإمداد إلى التقلبات الحادة في أسعار الطاقة والمواد الخام عن هشاشة الاقتصادات التي تعتمد على الخارج في تلبية احتياجاتها الحيوية، بينما برهنت الدول التي تبنت توطين الصناعة مبكرا على قدرتها في الاستمرار والإنتاج وخلق القيمة حتى في أصعب الظروف، فالتوطين لا يعزز القدرة الإنتاجية فحسب بل يصنع منظومة متكاملة من الأمن الغذائي والدوائي والتقني ويقلل مستويات المخاطر ويمنح الاقتصاد قدرة أكبر على امتصاص الصدمات.
ويأتي دور الدولة هنا محوريا من خلال توفير بنية تحتية متقدمة وحوافز استثمارية وبيئة تشريعية جاذبة تسهم في نمو الصناعات المحلية ورفع مستوى جودتها. كما تسهم الشراكات مع القطاع الخاص في نقل المعرفة والتكنولوجيا وتمكين كوادر وطنية قادرة على الابتكار وتطوير خطوط الإنتاج الحديثة وفي الوقت نفسه يعد رفع نسبة المحتوى المحلي معيارا أساسيا لقياس مدى نجاح خطط التوطين، إذ يخلق فرص عمل نوعية ويغذي السوق بمنتجات وطنية منافسة.
ولا يقتصر أثر توطين الصناعة على البعد الاقتصادي فحسب، بل يمتد إلى تأثيرات اجتماعية وتنموية واسعة، أهمها تعزيز الثقة في المنتج المحلي وتحقيق التوازن في الميزان التجاري وتقليل الاعتماد على العملة الأجنبية، ما ينعكس استقرارا ماليا ونموا مستداما.
كما أن الصناعات الوطنية تصبح مصدرا للتصدير لا مجرد ملب لحاجات الداخل، الأمر الذي يرفع من مكانة الاقتصاد على خارطة المنافسة العالمية.
ختاما فإن توطين الصناعة ليس مشروعا مرحليا، بل رؤية استراتيجية لبناء اقتصاد أكثر مرونة وأعلى كفاءة. إنه بوابة الأمن الاقتصادي وأداة تمكين للمستقبل وضمانة لاقتصاد قادر على مواجهة التحديات وصناعة الفرص. وما بين الإرادة السياسية وحيوية القطاع الخاص وطموح الكفاءات الوطنية، تتشكل اليوم معالم اقتصاد تنافسي يستند إلى قاعدة صناعية متينة ويخطو بثبات نحو الاكتفاء والنمو المستدام.
