القضية هذه كانت غامضة ومشوشة في أحداثها وحقائقها.. وبدت أول الأمر كأنها ارتكبت بدافع سياسي أو متطرف ولكن بإجراء التحقيقات والتعمق في كشف الحقائق من قبل المحققين بجهة الشرطة تبين بأنها واقعة جنائية مثلها مثل أي قضية مماثلة وبدافع شخصي ونتيجة لخلافات متباينة ونوعية وليست لها علاقة بالانتماء لمجموعة أو تسمية معينة.. و.. وهاهي الوقائع والتفاصيل بالكامل:
الساعة السابعة إلا عشر دقائق من مساء يوم الثلاثاء حين وصل البلاغ إلى إدارة أمن منطقة حدة ومركز شكرة سهيل حدة بالأمانة عن حدوث إطلاق نار ووجود جثة بداخل سيارة سوناتا لون أحمر بشارع الخمسين بحدة.. فتحركوا من المنطقة والمركز عقب هذا البلاغ إلى الشارع المشار إليه في البلاغ وأولهم العقيد أحمد مصلح الصياد ـ مدير أمن المنطقة والعقيد منصور المقالح مدير المباحث بالمنطقة والمقدم أحمد الدبعي مدير مركز الشرطة ومعهم خبير مسرح الجريمة ورئيس فرع الأدلة الجنائية بالمنطقة يحيى علي العماري إضافة إلى بعض المساعدين والأفراد من المنطقة والمركز والذين وصلوا إلى المكان وباشر كل منهم عمله كلاٍ حسب اختصاصه.. حيث قاموا بتحريز المكان وإجراء المعاينة الفنية والتصوير للمكان والجثة ورفع الآثار الممكنة وكذا جمع الاستدلالات والمعلومات الأولية حول الواقعة وملابساتها وما إلى ذلك.
وكانت الجثة حسب ما ظهرت من المعاينة لرجل يبلغ من العمر أربعين عاماٍ ومصاب بعدة أعيرة نارية في أنحاء متفرقة من جسمه منها طلقتان نافذتان في رقبته مدخلهما من جهة الشمال ومخرجهما من جانب اليمين ثم طلقة ساكنة بصورة وطلقة رابعة في يده اليسار وكانت الطلقات الأولى الثلاث ـ كما رجح فريق الشرطة والأدلة ـ هي التي سببت نهايته وأودت بحياته في حينه.
واستناداٍ إلى الإفادات والمعلومات التي تجمعت لدى شرطة الفريق آنئذ وفيما بعد فإن القتيل هو ضابط برتبة رائد في السلك العسكري ومن مواليد إحدى المناطق بمحافظة ذمار ويسكن بحي السنينة غرب العاصمة صنعاء وهو من النوع الذي يعرف بأن علاقاته مع زملائه كانت داخل العمل وخارجه عادية وطبيعية متفاهمة وليس له عداء مع أحد وكان خدوما لمعظم الناس وسلوكه حسنة ومشرفة.
وكما اتضح خلال المعاينة للمكان والجثة أن الواقعة حدثت بالشارع أمام محل لبيع المفروشات وظهرت إحدى الطلقات النارية اخترقت زجاج المحل من الخارج إلى الداخل ونفذت إلى المسند بالداخل.. وعثر أثناء ذلك على عدد من الظروف الفارغة وعلى أكثر من مقذوف ناري بالمكان إضافة إلى بعض الأشياء والآثار الأخرى والتي تم تحريزها جميعاٍ.. في الوقت الذي حرص رجال الفريق على سؤال من تمكنوا من الأشخاص المتواجدين بالمكان وأصحاب المحلات التجارية على الشارع من الجانبين عن معلوماتهم تجاه الواقعة وكذلك ركزوا على البحث والتحري في نطاق الشارع ومحيطه عن أشخاص شهود إثبات وأيضا عن كاميرات مراقبة تليفزيونية توجد في المباني والمحلات التي تطل على مكان الواقعة ونطاقه من كل الجهات وامتداد الشارع لاعتقادهم أن تلك الكاميرات لا شك تكون صورت وسجلت كل ما قد يكون له علاقة بمشاهد الواقعة ما قبلها وأثناءها وما بعدها وأن ذلك مما لا ريب يوفر لهم الجهد والوقت ويختصر أمامهم المسافات وبالأخص إذا صادف ووافقهم الحظ ووجدوا في الكاميرات تلك ما يبحثون عنه أو على الأقل ما هو أول الخيط للوصول إلى ضالتهم المنشودة.
كما اهتموا في الحين ذاته بأخذ تليفون الرجل القتيل ومضوا يقلبون ويفتشون فيه الأرقام والأسماء التي بداخله ويتحرون عن كافة أصحابها وبدقة متناهية وتضاعف تركيزهم أثناءها على آخر المكالمات الصادرة والواردة للقتيل وكان من حسن حظهم أن وجدوا خلال ذلك بعض الأسماء والأرقام التي بادروا للاتصال بأصحابها بغرض استدعائهم واستفسارهم عن المجني عليه لأنه -أي القتيل- لم يكونوا قد عرفوا هويته ويريدون معرفة أي شيء عنه للاستدلال عليه… فكان عن طريق هؤلاء الأشخاص الذين اتصلوا من تلفون المجني عليه أن توصلوا إلى معرفة هوية الرجل وبياناته ومعرفة أهله وأقربائه والتواصل معهم وإبلاغهم واستدعائهم. وليس هذا وحسب وإنما بمواصلة العقيد أحمد الصياد ومن معه في المتابعة وجمع الاستدلالات والبحث وعدم التوقف أثمرت جهودهم وتمكنوا في اليوم التالي من العثور على بعض كاميرات المراقبة الموجودة في بعض المباني المطلة على الشارع ومنها مبنى المستشفى الكائن بالشارع وكذلك مبنى منزل تابع لأحد الشخصيات ومنزل آخر كان مجاوراٍ للبيت الذي ثبت وقيل أن الرجل المجني عليه كان قد أتى ودخل للمقيل فيه بنهار اليوم الذي قتل خلاله بعد خروجه من منزل المقيل مباشرة إذا أنه من قيامهم باستعراض الصور والتسجيلات التي اختزنتها هذه الكاميرات وتفحصهم لها ثم بعرض صور الأشخاص التي ظهرت فيها على بعض الأقرباء للتعرف عليها اتضح خلال ذلك ظهور أحد الأشخاص ضمن تسجيلات كاميرات المراقبة تعرف عليه أقرباء القتيل قائلين إنه أحد أولاد العم وقد ظهر هذا الشخص في أكثر من موقع ومشهد بالإضافة إلى ظهور سيارة نوع “كذا” تعقبت السيارة التي كان عليها الرجل المجني عليه عند وصوله للمكان ودخوله للمقيل هو وشخص آخر كان برفقته في منزل بالشارع.
وكان الاعتقاد حتى هذه اللحظات لدى رجال الفريق بأن الواقعة هي واحدة من الجرائم التي تدخل ضمن عمليات استهداف الضباط العسكريين والأمنيين والتي استشرت في الآونة الأخيرة ولأهداف سياسية أو حزبية أو مذهبية وطبقية وغير ذلك ولكن بالتوسع في التحقيقات وجمع الاستدلالات والتحريات وعلى أكثر من اتجاه ومسار في وقت واحد تلاشى الاعتقاد الآنف الذكر وثبت عكس ذلك تماماٍ وأن القضية ما هي سوى واقعة جنائية بحتة وليست لها علاقة بأي دافع سياسي أو مذهبي.. وتأكد هذا بشكل مطلق بعدما تم أخذ إفادات بعض أقرباء المجني عليه ومنهم شقيقة وزوجته وابن أخيه والذين ورد في إفادة أولهم وهو شقيقة والذي كان الأصغر منه وعمره 35 عاماٍ ويسكن بمحافظة ذمار بما يبين أن أخاه القتيل كان من الصنف الودود والخلوق مع الناس إلا أن ثمة مشاكل قديمة توجد بين أخيه وأولاد عمهم وهذه المشاكل لها ما يزيد عن ثلاثة عشر عاماٍ أو من قبل ذلك وهي مشاكل قبلية حيث حصل في ذلك الحين وقوع إطلاق نار وإصابة أحد أولاد عمهم أو بعضهم وقد تدخل بعض الوجهاء في ذلك الوقت وتم حل المشكلة ولكن لم ينته التوتر بين الطرفين وربما يكون لواقعة مقتل أخيه ارتباط بتلك المشكلة القديمة.
بينما جاء في أقول زوجة القتيل والتي كانت امرأة فاضلة متعلمة ومؤهلة تأهيلاٍ عالياٍ كونها حاصلة على رسالة الماجستير بما يكشف أن زوجها المغدور خرج يوم الواقعة في الصباح من البيت كعادته ذاهباٍ إلى العمل وعاد في وقت الظهر ومعه برفقته شقيقه الأصغر منه وتناولوا مع بعضهم طعام الغداء وأثناء ذلك اتصل بزوجها أحد زملائه الذي اتفق وإياه أن يذهبا سوياٍ بعد الغداء للمقيل “التخزين” عند الضابط الكبير المسئول عليهما بالعمل وذلك في منزله الكائن بمنطقة حدة لأن المذكور سوف يسافر للعلاج خارج الوطن بنفس المساء ولا بد من مجابرته من باب الزمالة والمجاملة ثم أتى زميل زوجها إلى البيت عقب الاتصال واتجه بعد ذلك الإثنان إلى منزل الضابط المسئول بحدة حسب الاتفاق.. وأضافت الزوجة ضمن إفادتها بأنه قبل بضعة أيام أتى شخصان من البلاد إلى زوجها القتيل وجلسا معه للمقيل بالبيت وأخبراه يومها أن هناك أشخاصاٍ في منطقتهم قاموا بجمع مبلغ ثلاثة ملايين ريال من أجل إعطائها لمن سيقوم بقتله أي قتل زوجها أو اغتياله بدافع الانتقام من علاقة خصمهم اللدود.
كما ورد في رد ابن شقيق المجني عليه حين قيام فريق الشرطة بعرض التسجيل المرئي لكاميرات المراقبة التي عثروا عليها في بعض المباني المطلة بالشارع ونسخوا منها المشاهد والمقاطع خلال أوقات ما قبل الواقعة وأثناءها وبعدها ورؤية الشاب ابن الأخ لهذه المقاطع والمشاهد بما يجزم أنه تعرف على أحد الأشخاص الذين رآهم في المقاطع وهو فلان والذي كان أحد الغرماء أولاد العم في المشاكل القديمة بين القتيل وبين أولئك أولاد العم منذ ثلاثة عشر عاماٍ.. وكان الشخص المشار إليه المشتبه قد ظهر بصحبة مجموعة من أشخاص كانوا على سيارة بدت كأنها قامت بمتابعة سيارة المجني عليه وكانت تراقبه منذ خروجه من البيت بالسنينة وحتى وصوله بالسيارة إلى المكان شارع الخمسين محل الواقعة حيث ركن السيارة بالشارع واتجه بعد ذلك ومعه صاحبه الذي أتى برفقته ودخلا للمقيل في منزل زميلهما الضابط الكبير المسافر.. وبعد ذلك في المغرب عند خروج المجني عليه من المنزل عقب المقيل قاصداٍ العودة وقع إطلاق النار عليه ومقتله وهو داخل سيارته قبل تحركه بها للعودة للبيت .. ولم يكتف رجال الفريق بهذا وإنما قاموا بالإضافة إلى ذلك باستنطاق أكثر من عشرين شخصاٍ وفتح المحاضر مع سبعة أشخاص آخرين كل منهم على انفراد واتضح من ذلك أنه قبل حوالي شهر ونصف من الواقعة الأخيرة “القتل” وقع حادث حريق لسيارة كبير أولاد عم القتيل خصومه في تلك المشكلة القديمة وهي سيارة نوع صالون ومكان الحريق كان في منطقتهم “البلاد” وأن صاحب السيارة أبن العم لم يوجه الاتهام بحرق سيارته لأحد واكتفى بقوله: إن الذي فعلها سوف ينتقم الله منه.
ثم بفرز هذه الحقائق والمعلومات والقرائن وتضييق دائرة الاشتباه والاتهام خلص رجال المنطقة والمركز إلى التركيز على أولاد عم القتيل “غرمائه” في المشاكل القديمة كمشتبه بهم أو متهمين بارتكاب واقعة القتل مع ضعف الدلائل التي تثبت الاتهام بصورة قاطعة ونهائية نظراٍ لوجود أكثر من احتمال بشأنهم في آن واحد.. وقام ضباط الفريق التحفظ على ثلاثة أشخاص واحتجازهم في الوقت الذي وضعوا ثلاثة أشخاص آخرين كمتهمين هاربين ومطلوب متابعتهم والقبض عليهم على ذمة الواقعة.. ومازالت المتابعة وراء الهاربين والمطلوبين مستمرة.. والله يكون في عون رجال الشرطة أينما كانوا.. ونسأل الله السلامة في الدنيا والآخرة.
Prev Post
Next Post
قد يعجبك ايضا