في الذكرى السنوية للشهيد، نعيشُ في رحابِ الشهادة؛ لا تفتأ أرواحنا تَشْتاقُ لأن تتنفس نفحاتِ الجنان، ولا تزالُ نفوسُنا عطشى لِترتويَ من ينابيعِ الطُّهر، ولا تتوقفُ أفئدتُنا عن الشوقِ لتتعطّر برياحينِ الأرواحِ الزكية. نمضي في دروبِ التضحيةِ والفداء مع عظماءٍ انحنت لهم شموسُ المجدِ إجلالًا وإكبارًا. قد أتوا نورانيين زوَّارًا في هذه الدنيـا، فأدّوا رسالتهم، وأتمّوا تكليفهم الربّاني، فاستثمروا حياتهم فباعوا أنفسهم لله فاشتراها ربّهم، ورُزقوا الفلاح والنعيم المقيم.
لا تزال نسماتُ الجنان تهبّ علينا فتملأ القلوبَ روحانيةً وصفاءً، وتحتوينا أطيافُ الشهداء فتسقينا زكاةَ الأرواحِ ورفعَها وسموّها. نستلهمُ من سيرتهمِ العطرة ما يَجلو شوائبَ النفوسِ ويُزكّي القلوب، فهم نجومٌ تتلألأ في سماءِ العزّ والإيمان، وضراغمٌ تلقّن أعداءَ الله أقسى الدروس، ويحصدون رؤوسَ الشرّ، ويُضيئون بآياتِ النصر الدروبَ للمستضعفين والتائهين.
الشهداء حملوا في صدورهم هم الدينَ والأمّة، وكان همُّهم إنقاذُ المستضعفين، وحرارةُ الآياتِ القرآنيةٌ تتلألأ في مشاعرهم، وعبقُ الحرية يفوحُ في دمائهم. تحوّلت أجسادُهم إلى مشاعلِ هدى تُنيرُ الأرضَ بالعدلِ والقسط، وصنعوا بأشلائهم سياجًا فولاذيًّا مكّن الوطنَ من الوقوفِ أمام محاولاتِ الإباداتِ والاحتلال.
بدمائهم رُويت شجرةُ الحريةِ والعزّةِ والكرامةِ، فصارت مدرسةً متكاملةً للأجيال: تتعلم كيفَ تحصنُ الوطنَ بدمائها من أعداءٍ وغزاةٍ ومحتلين. واليمن، لازال هو يمن الإيمان فبإيمانه ووعيه وجهاده، ظلّ مقبرةً لكلِّ عدوٍّ حامٍ لأهدافِه الفاسدةِ وعمائِلِه.
أيقنت التضحياتُ أنَّ الدمَ لا يذهب هدرًا؛ بل يجعلُ لِلبائسينَ بسماتٍ وللثكالى عزًّا، ويشيدُ للمستضعفينِ حصنًا، ويزرعُ في الشعبِ أملًا يتغذّى عليه الأحرار. المبادئُ التي ضحّوا لأجلها فأوقدت شعلةً لا تنطفئ؛ هي نورٌ يهدينا لمواصلة المشروع التحرري في مواجهةِ الطغاةِ والمجرمين.
الشهداء صنعوا عزّنا وصانوا كرامتنا؛ هم عنوانُ المعانيِ كلِّها بما فيها من بلاغةٍ ومطلب. وأبرزُ ما نستلهمه منهم هو: الصدقُ مع الله، فالصّدقُ منبعُ الأمانةِ والوفاءِ، ومن واجبنا أن نكون أوفياءَ للشهداءِ — أن نسيرَ على نهجِهم، ونُرسّخ في نفوسنا المبادئَ والقيمَ التي ضحّوا من أجلها.
وتذكرنا ذكراهم لأن نتذكر ونعمل على مراجعة واقعنا ونصحح ونصلح أدائنا للمسؤولية في السلوكِ والتعاملِ داخل المجتمعِ وفي ميادينِ المواجهةِ نستذرهم عند كل تحدٍّ وخطرٍ نستدعي سيرتهم لِنستمدّ العزيمةَ والصمودَ؛ وذكرهم فرصةٌ لمراجعةِ النفسِ ومحاسبتها، فمن اكتوَى بالخطأِ فليُصلِح، ومن طغى عليه عشق المنصب وتقاعس عن أداء الواجبِ فليصلح نفسه، فإن التقاعس والتخاذل خيانةٌ لدمائهم الزكية.
لا يمكن أن يكتملَ الوفاءُ دون حمايةِ المسيرةِ من الانحرافات فالاستغلالُ الآثمُ لثمارِ التضحياتِ باسمِ السلطةِ أو الجهادِ خيانةٌ كبرى. لا نرضى بأن يتحوّل مسؤولًا أو قائدًا، أُتيحت له السلطةُ بفضلِ التضحياتِ، إلى طاغيةٍ صغيرٍ يبتزّ الناسَ ويغتصب حقوقَهم — فهؤلاء يطعنون الثورةَ في خاصرتها ويهدمون ما بنته الدماء.
وعليه، فإنّ ضبطَ السلوكِ ومحاسبةَ المتسلّطين واجبٌ شرعيٌّ ووطنِيٌّ؛ لا تهاون فيه. صونُ نقاءِ المسيرةِ ومبادئِها هو الوفاءُ الحقيقيّ للشهداءِ ولأسرِهم، وهو الضمانةُ لاستمرارِ المشروعِ التحرّري النقيّ.
تظلُّ الذكرىُ السنويةُ للشهيدِ منارةً ووهجًا يُجدّد فينا الهممَ ويشحذُ الإرادات. فلنكن أوفياءَ لِدمائهم، حُماةً لقيمهم، أمناءً على مسيرتهم، حتى تظلّ رايةُ الحقِّ خفّاقةً، ويظلّ الوطنُ منيعًا بعزيمةِ الأحرار وصدقِ المضحّين.
