بين أصوات المطارق في قاعة الرقص الفخمة بالبيت الأبيض وصمت ملايين الموظفين الفيدراليين الذين لم يتلقوا رواتبهم بسبب الإغلاق الحكومي، يطرح سؤال ملح: إلى أين تتجه أمريكا؟ فبين البذخ الشخصي والإدارة المتعثرة، يبدو أن الولايات المتحدة تواجه واحدة من أصعب مراحلها السياسية والاقتصادية في تاريخها الحديث.
ينشغل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بمشاريعه الشخصية، وعلى رأسها حلمه القديم ببناء قاعة رقص فخمة تمتد على مساحة 90 ألف قدم مربعة وتُقدّر تكلفتها بنحو 200 مليون دولار. ويصف ترامب شغفه بهذا المشروع قائلاً إن “صوت البناء أشبه بالموسيقى التي تطرب أذنه”، وذلك خلال تصريحاته الأخيرة لأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين في حديقة الورود.
لكن هذه الفخامة تتناقض بشكل صارخ مع الواقع الذي يعيشه ملايين الأمريكيين. فبينما تُدق المطارق في البيت الأبيض، يجد آلاف الموظفين أنفسهم بلا رواتب، متوقفين عن العمل، ومعرضين لضغوط مالية كبيرة بسبب الإغلاق الحكومي الذي دخل يومه الثاني والعشرين، ليصبح ثاني أطول إغلاق في التاريخ الأمريكي.
الإغلاق الحالي جاء نتيجة لفشل الكونغرس في تمرير مشروع قانون تمويل قصير الأجل، بسبب الخلافات بين الديمقراطيين والجمهوريين حول الرعاية الصحية وتأمين ملايين المواطنين من ارتفاع الأقساط التأمينية. وفي هذا السياق، صرح الرئيس الأمريكي خلال جلسة جمعته مع أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين بأن إدارته «لن تُبتز من الديمقراطيين»، في إشارة واضحة إلى تمسك الجمهوريين بمواقفهم ورفضهم تقديم تنازلات. هذا الصراع يعكس أزمة الثقة بين الأطراف السياسية ويزيد من صعوبة الوصول إلى حل سريع لإنهاء الإغلاق.
وفي الوقت الذي يغمر فيه البيت الأبيض بمظاهر البذخ والترف الشخصي، مثل إضافة أعمدة أعلام ضخمة، ورصف حدائق البيت الأبيض، وتزيين المكتب البيضاوي بالذهب، يجد ملايين المواطنين أنفسهم ضحايا إغلاق حكومي يوقف الخدمات الحيوية ويجمد الرواتب. هذا التناقض يطرح أسئلة أخلاقية وسياسية حول أولويات القيادة الأمريكية ومدى مسؤوليتها تجاه الشعب.
تشهد المدن الأمريكية الكبرى منذ أسابيع موجةً متصاعدة من المظاهرات ضد سياسات الإدارة، تحولت من احتجاجات مطلبية إلى أزمة شرعية تهز أركان النظام السياسي. فقد شارك ملايين الأمريكيين في جميع أنحاء الولايات المتحدة في احتجاجات “لا للملوك” الثانية ضد الرئيس دونالد ترامب، مسجلين بذلك أكبر مظاهرة في يوم واحد ضد رئيس في السلطة في التاريخ الحديث. هذه الاحتجاجات الشعبية تأتي في سياق الإغلاق الحكومي المستمر، وتدهور الخدمات العامة، وشلل المؤسسات الفيدرالية، لتبرز الانقسام العميق بين القيادة والمواطنين، ولتؤكد أن الاستياء لم يعد مجرد نقاش سياسي، بل حركة جماهيرية تعكس شعورًا واسعًا بعدم العدالة وانحراف المسار الديمقراطي
لم تعد الأزمة مجرد خلاف سياسي بين اليمين واليسار، بل باتت تعبيرًا عن تصدع بنيوي في الكيان الأمريكي ذاته. فالصراع بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي تجاوز حدود التنافس الانتخابي إلى صراع على هوية الأمة ومستقبلها. الديمقراطيون يتهمون الجمهوريين بقيادة ترامب بتحويل الدولة إلى أداة لخدمة الشركات الكبرى وتهميش الطبقة الوسطى، بينما يرى الجمهوريون أن خصومهم قادوا البلاد نحو الفوضى الاقتصادية والاجتماعية، وأن سياساتهم تهدد ما يسمونه “أمريكا العظيمة”.
ترامب، الذي جاء بشعار “لنجعل أمريكا عظيمة من جديد”، أعاد معه صراعات قديمة حول معنى العظمة. الجمهوريون يرونه المنقذ الذي تحدى “الدولة العميقة”، بينما يراه الديمقراطيون طاغية يهدد أسس الجمهورية ويحوّل منصب الرئاسة إلى أداة للحكم الفردي. وبين هذا وذاك، يقف الشعب الأمريكي منقسمًا بين من يراه بطلًا قوميًا ومن يراه نذير سقوط الإمبراطورية.
الانقسام لم يعد سياسيًا فحسب، بل أيديولوجيًا وثقافيًا وأخلاقيًا. فبينما يسعى الجمهوريون للحفاظ على قيم تقليدية، يدعو الديمقراطيون إلى “أمريكا الحديثة” القائمة على الانفتاح والمساواة. وسط هذا الصراع، تفقد الولايات المتحدة شيئًا فشيئًا قدرتها على تقديم نموذج موحد لما تعنيه كلمة “أمة”. فالحلم الأمريكي الذي جمع يومًا المهاجرين والفقراء والطموحين، بات حلماً متنازعًا عليه ويُستعمل لتبرير الانقسام لا لتوحيد الصفوف.
في الخارج، لم يعد المشهد الأمريكي كما كان. العالم يراقب بانبهار ودهشة سقوط هيبة “الزعيم العالمي”. فالدولة التي طالما رفعت شعار الحرية وحقوق الإنسان، أصبحت هي نفسها مسرحًا للاحتجاجات والانقسام. الدول التي كانت واشنطن تُملي عليها معايير الديمقراطية، باتت تتحدث اليوم عن ضعف المؤسسات الأمريكية وتآكل نموذجها السياسي.
ما يحدث في واشنطن اليوم هو تجسيد لسقوط فكرة “الاستثناء الأمريكي” التي طالما تباهت بها الإدارات المتعاقبة. فكل ما كانت أمريكا تهاجم به الآخرين — من فساد سياسي، وانقسام مجتمعي، واستغلال للسلطة — أصبح واقعًا داخلها. المؤسسات تتراجع أمام سلطة الرئاسة، والإعلام منقسم، والكونغرس غارق في المعارك الحزبية، فيما تتراجع الثقة بمؤسسات الدولة الفيدرالية إلى أدنى مستوياتها.
ترامب، بقدر ما يمثل تحديًا للنظام التقليدي، قد يكون رمزًا لنهايته. فهو لم يخلق الانقسام، بل كشفه، وأظهر هشاشة المؤسسات أمام سلطة فردية تمتلك الجرأة على تجاوز كل الخطوط. وبين ضجيج المطرقة في قاعة الرقص التي يحلم بها ترامب، وصمت الموظفين الأمريكيين العاجزين عن تقاضي رواتبهم، يلوح سؤال مصيري في الأفق: هل ستنجح أمريكا في إنقاذ نفسها من مصير من سبقها، أم أن عقارب التاريخ قد بدأت تدور عكس مصلحتها؟
الأيام القادمة وحدها ستكشف ما إذا كانت الولايات المتحدة قادرة على استعادة جمهوريتها ومصداقيتها، أم أن الانقسام والفساد السياسي بدأ يقودها نحو منعطف نهاية الإمبراطورية التي طالما اعتُبرت رمزًا للعظمة والهيمنة العالمية.
