لم يعرف أحد ماذا أصابه¿ ولا لماذا فقد أعصابه.. هكذا فجأة صار يتصرف على غير عادته.. بدأ يصيح ويصرخ ويتذمر على غير شاكلته.. لم يكن كذلك من قبل.. حتى أمه التي هي واحة الحنان والدفء غدا يرفع صوته عليها ويقلب وجهه أمامها.. وأخته التي أكبر منه التقاها في الصالة داخل البيت وهو عائد من خارجه قبل يومين ولطمها قائلاٍ لها: سوف أربيك.. ولكن..!¿ كان فيما مضى هادئ الطبع عقلاني التعامل رزين الكلام.. ولكن في الفترة الأخيرة تغير وانقلب حاله.. وليس ذلك وحسب وإنما في آخر المطاف تمادى في سوء تصرفه حتى امتدت يده للقتل وأٍصبح بين ليلة وضحاها متهماٍ قاتلاٍ ومقبوضاٍ عليه على ذمة الجريمة.. وها هو بين يدي الضابط المحقق يعترف ويسرد الأحداث للواقعة وحسبما وردت على لسانه في محضر جمع الاستدلالات النهائي معه.
عندما كان عمري 16 عاماٍ رحل أبي عن الدنيا منتقلاٍ إلى جوار ربه وتركنا نحن أفراد أسرته وهم أنا وأمي وأخواتي الثلاث في حالة لا يعلم بها إلا الله وكان ضابطاٍ برتبة رائد في السلك العسكري وبمرتب شهري محدود لا يكاد يكفي لعشية الأسرة لمدة أسبوع وكنت أنا الابن الذكر لأمي وأبي وأصبحت بعد موت أبي في نظر الناس الرجل الوحيد الذي يمكن أن يعتمد عليه في تحمل مسؤولية البيت على الأقل في المستقبل القريب نظراٍ لأني ما زلت صبياٍ وصغيراٍ ولم أستوعب بعد القدرة والخبرة لإمكانية مواجهة المسؤولية الكاملة تجاه أمي وأخواتي الثلاث داخل البيت وخارجه.. ولذلك فقد أخذت المهمة على عاتقها أمي وقتها ولم يكن ذلك من اليسير عليها.. حيث حاولت في البداية الاعتماد على مرتب أبي في تغطية الصرفيات والنفقات على البيت.. إلا أن هذا كان من الصعوبة وأشبه بالاستحالة بمكان بسبب غلاء الأسعار المستمر للسلع وثبات الراتب المحدود دون زيادة ما بعد وفاة صاحبه إضافة إلى تكاثر وتراكم الطلبيات والاحتياجات لي ولأخواتي الثلاث التي كانت إحداهن الأكبر مني وعمرها (20) عاماٍ وهي طالبة في الجامعة بينما أختاي الأخريتان واللتان كانتا أصغر مني ما زالتا طفلتين ويتطلب الحال مصاريف للمعيشة ومواجهة طلباتي أنا بالمدرسة وكذا أختي في الجامعة وطلبات العلاج عند تعرض أي منا للمرض داخل البيت وهو أمر اضطرت أمي بسببه للعمل لدى أحد بيوت الأثرياء بالمنطقة التي كنا نسكن فيها.. إضافة إلى اضطرار أختي الكبرى والطالبة في الجامعة للبحث عن عمل والالتحاق هي الأخرى للشغل بإحدى الشركات في المدينة بأوقات غير ساعات الدراسة بالجامعة.. في حين أنا واصلت دراستي بالمدرسة حتى أجتزت المستوى التاسع ثم وصلت إلى نهاية المرحلة الثانوية وفي هذا العام غدوت أستعد لامتحان الثالث الثانوي وأخذ الشهادة الثانوية.. وكانت حالتنا المعيشية قد تحسنت خلال الفترة التي مضت منذ اشتغال أمي والتحاق أختي بالوظيفة بالشركة كما أن هذه (أختي) زادت النقود في يديها وبدأت تقتني بعض الحلي والأساور من الذهب مع مرور الأيام وبصورة تفوق دخلها من الراتب الشهري الذي تتقاضاه شهرياٍ بالوظيفة وكذلك راحت تتأخر في عديد من الأيام عن العودة للبيت إلى وقت متأخر وأحياناٍ تعود وعلى وجهها آثار المكياج وآثار اللون الأحمر على شفتيها وآثار الصباغ الوردي على خديها وكأنها كانت متزينة وأزالت ألوان الزينة عنها قبل عودتها للبيت.. فكان ذلك مما آثار الملاحظة لدى والدتي وجعلها ترتاب فيها ثم تصيح وتصرخ في وجهها وتثير معها مشادة كلامية أكثر من مرة وحدث ذات مرة أن أقدمت أمي على مد يدها عليها وضربها قائلة لها: إن لم تثوبي إلى رشدك سوف أكلم أخاك وخالك وهما سيعدلانك.. وقد سمعت هذا الكلام يومها عند عودتي للبيت وحال دخولي صمتت والدتي بينما شاهدت أختي كانت تبكي ثم هربت إلى غرفتها بالبيت حين رأتني.. وسألت أمي في ذلك اليوم: عما يجري..¿! فردت علي: أنت عليك أن تنتبه لدراستك فقط ولا تشغل بالك بشيء..!¿
وبعد ذلك ببعض أيام صادف إن كنت ماراٍ في الشارع وسمعت بعض الأشخاص من الجيران كانوا معاٍ ويتحدثون فيما بينهم وذكروا خلال حيدثهم اسم أختي الكبيرة فألتفت إليهم وأردت الاقتراب منهم لسؤالهم عن ذلك ولكنهم سكتوا حين رأوني والتزموا الصمت فواصلت طريقي لحال سبيلي وفكرت وقتها أن ذكر أولئك الشباب لاسم شقيقتي ربما أن أي منهم يريد التقدم لها للزواج بها بسبب أنها كانت جميلة ومشهورة بجمالها في المنطقة وأكثر من شاب عازب كان يرغب في طلبها والاقتران بها ولكن نظراٍ لارتفاع الشرط والمهر بحسب العرف السائد بالمنطقة والذي يبلغ أكثر من مليون ريال حال دون اقدام أي منهم على ذلك ثم بعد مرور أكثر من أسبوعين تقريباٍ فوجئت بأحد أبناء خالي (شقيق أمي) يمسك بي ذات نهار ويأخذني على جانب منفرداٍ بي ثم يسر لي قائلاٍ بما يؤكد: أنه لمح أختي الفتاة يوم أمس وهي تنزل مع شاب من سيارة بالمدينة وتدخل وإياه أحد الفنادق وينزلان بغرفة في الفندق على أنهما زوجان اقترنا ببعضهما حديثاٍ وأن رفيقها الشاب أبرز لموظف الاستقبال الفندق بطاقة عائلية له باسمه وصورته وتذكر أنه رب أسرة متزوج واسم الزوجة فلانة .. قال لي ابن الخال هذا وهو يتعرق ويخرج الكلمات من فمه بمشقة حياءٍ وحرجاٍ وأضاف ابن الخال: بأنه عرف بحكاية البطاقة العائلية ونزول الشاب مع أختي بها في الفندق لأنه سار بعد دقائق إلى الفندق وسأل عامل الاستقبال عنهما وأفاده العامل بذلك.
فكان ما أخبرني به ابن خالي (الآنف الذكر) عن أختي ما جعلني أشعر كأني أدور حول نفسي ألف دورة وأكاد أجن وأفقد عقلي وبصيرتي تماماٍ وبت أتشكك في تصديق ما سمعته غير أنه كان ابن خالي الذي نقل لي الخبر ومن باب أن السمعة تطاله كما تطالني لأنها ابنة عمته كما هي أختي وألسنة النار تحرق كل القش ولا ترحم أحداٍ لا قريب ولا صلة من بعيد .. ولقد عدت في هذا اليوم إلى البيت وأنا اشتعل غضباٍ وحنقاٍ والدم يغلي في عروقي وكل ما بداخلي على وشك أن ينفجر كالبركان المنصهر وارتبكت كيف أفعل وكيف اتصرف¿! إن عمري الآن وصل إلى 19 عاماٍ وصرت شاباٍ بالغاٍ من حقه أن يكون رجل البيت والأمر الناهي فيه وكذا المسؤول عن أخواتي وولي الأمر لهن باعتباري الأخ الذكر الوحيد بعد الأب الراحل .. كما أن العرض والشرف ليس من الممكن التغاضي عنهما حتى لو لم أكن كذلك .. ولهذا حينما وصلت إلى المنزل في اليوم الذي كلمني ابن خالي أول ما فعلته سألت أمي: عن الوقت الذي عادت فيه أختي (الكبرى) للبيت يوم أمس.. وكان سؤالي لها بطريقة أرغمتها على الرد عليِ بشكل دون سؤالها لي لماذا¿ بقول: أنها عادت للبيت في وقت بعد العشاء قائلة أنها اضطرت للتأخر في العمل أو الوظيفة بسبب شغل إضافي.
فتأكدت لدي حينها صحة وحقيقة ما سمعته من ابن خالي عن أختي ومكثت أنتظر عودتها داخل البيت في هذا اليوم حتى مجيئها بعد المغرب وباشرتها حال وصولها في وجهها على غير عادتي وسألتها: أين كنت بعد ظهر يوم أمس¿ ومن الشاب الذي كان برفقتك¿ وكنت وإياه بفندق كذا¿! فتغيرت صورتها وانقلبت مرتبكة كأنها تفاجأت بذلك وردت قائلة: ماذا.. ماذا تقول من متى أصبحت تسأل¿ هل نسيت أنني الأكبر منك وأنك ما زلت تأخذ مصروفك مني إلى اليوم¿ وأنا الذي أصرف على الكثير في البيت¿ أنا الكبيرة وليس لك الحق بسؤالي ولا محاسبتي عن شيء¿! فلم استطع امساك أعصابي لحظتها بعد سماعي الكلام هذا وهجمت عليها فمددت يدي ولطمتها ثائراٍ وبعنف وأنا أقول: ما تقولين يا كلبة: أنا الرجل وأنا أخوك الذي سوف يربيك ولا تفكري أنني سأتركك و…¿ وعدت فلكمتها ولكن أمي تدخلت في هذه الأثناء ومنعتني عنها وهي تبكي ثم شدتها وسحبتها إلى داخل إحدى الغرف وأغلقت عليها وهي في الباب من الداخل ثم سمعت أمي تصيح وتصرخ فوقها بقولها ماذا فعلت¿ ما حكاية الفندق والشاب الذي كنت معه أمس وما علاقتك به¿ أخبريني كل شيء بصراحة وإلا لن أرحمك كما لن يتركك أخوك ولا خالك الذي سأتصل به وأطلب منه المجيء ليرى حلاٍ معك¿
وحاولت في تلك الأثناء أن أفتح باب الغرفة التي كانتا فيها من الخارج وأدخل ولكن الباب كان مغلقاٍ من الداخل بالمغلقة فلم أتمكن من ذلك .. ثم غادرت المنزل وأنا في ذروة الثورة وعاقد العزم على العودة فيما بعد لمعرفة كل ما يتعلق بحقيقة ذلك الشاب ونوعية علاقة أختي به وإلى أين وصلت هذه العلاقة بينهما وما إلى غير ذلك¿ وسرت أمشي في الطريق وأنا لا أعرف إلى أين ولا أحس بشيء حولي¿ وكل ما بداخلي كان ناراٍ تشتعل وتشتعل لتحرق وتحيل كل ذرة شعور في الأحشاء إلى رماد متطاير .. وكان بعد هذه الليلة وبالتحديد في اليوم الخامس أن ظهر المخبأ والمخفي وتبين المجهول واكتشف السر لتتطور عقب ذلك الأحداث ويصل الأمر إلى وقوع جريمة القتل وحدوث المفاجأة غير المتوقعة وكل هذا ما ستعرفه وتقرأه عزيزنا القارئ في الأسبوع القادم إن شاء الله .. وإلى اللقاء.
Prev Post
Next Post
قد يعجبك ايضا