حصار غزّة وتدميرها وجرائم الإبادة، وفي الوقت ذاته صمود أهلها رغم كل مآسيهم، أعاد إلى البشرية ما كان يبدو أنّه انتهى إلى غير رجعة.
لقد بدا وكأنّ البشرية تنازلت عن قيم كثيرة مثل التضامن الأممي وحق الشعوب في تقرير مصيرها. بدا قبل هذه الحرب وكأنّ القيم هي القوّة العسكرية والمال فقط. غزّة أعادت للإنسانية المعنى في أن تكون إنسانًا.
أسطول الصمود الذي يضم حوالي خمسين سفينة على متنها نحو 700 مناضل من 44 دولة أعاد للإنسانية ماء وجهها، وأعاد قيمة التضامن الأممي التي تعني الشعور بآلام الآخرين، حتى وإن لم يكونوا من أبناء دينك أو قوميتك أو بلدك.
كان يبدو وكأنّ عصر التضامن الأممي قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّ القيمة الوحيدة التي باتت تحكم العالم هي المصالح، حتى ولو كانت على حساب دماء الأبرياء، بعدما بات العالم كله برأس واحد يدير سياسة العالم ويقرّر مصائر الشعوب.
أعادت غزّة الوهج الثوري المفقود، واستعادت الأغاني الثورية وهجها، وأعادت تشكيل صورة الصراع الحقيقية بين ظالمين ومظلومين. أعادت أغنية الثوار الطليان بيلا تشاو BELLA CIAO، وهي من أشهر أغاني النضال ضد الاحتلال في العالم.
يعود لحن الأغنية إلى القرن التاسع عشر، حيث كانت تنشده الفلاحات الإيطاليات تعبيرًا عن آلامهن جراء الاستغلال البشع الذي كنّ يتعرضن له من قِبَل أصحاب الأراضي. وفي الحرب العالمية الثانية، إبان صعود الفاشية في إيطاليا بقيادة موسوليني وتحالفه مع النازية بقيادة هتلر، أدخل الثوار كلمات جديدة للأغنية تحمل معاني الحرية.
ومعنى الكلمات هو: “في صباح يوم ما استيقظتُ ووجدت الغزاة.. وداعًا يا رفيقة”، أي أنّه خرج لمحاربة الغزاة. تتحدّث الأغنية عن الاستعداد للتضحية، وأنّه إذا مات سيدفن في الجبال تحت أشعة الشمس وبين الزهور.
بعد الحرب العالمية الثانية انتشرت الأغنية بلغات عديدة وتحوّلت إلى رمز لمقاومة الاستبداد والظلم.
وفي كوبا اشتهرت أغنية جوانتاناميرا (أي فتاة جوانتانامو)، التي تحكي عن مقاومة الكوبيين للاستعمار الإسباني، لكنها أصبحت مشهورة عالميًا كأغنية احتجاجية في ستينيات القرن الماضي إبان حكم فيديل كاسترو ومعارضته للنفوذ الأمريكي. ومن كلماتها:
“قلبي في بساطته كالماء
صافيًا كجبل من البلّور
لكن حين أُظلم أو أُهان
أصير كالنمر في الغابة”.
وفي الاتحاد السوفييتي اشتهرت أغنية كاتيوشا، وهو اسم فتاة تنتظر حبيبها الذي ذهب إلى جبهة القتال، ثم أطلقوا اسمها على راجمة الصواريخ الشهيرة.
خلال حرب الإبادة في قطاع غزّة اشتهرت أغنية فرقة “الكوفية” السويدية عاشت فلسطين ولتسقط الصهيونية (Leve Palestina))، التي تحوّلت إلى أغنية تتردّد في المظاهرات عبر العالم.
ولدى الفلسطينيين الكثير من الأغاني مثل ظريف الطول التي تتحدث عن رفض الغربة، ومن سجن عكّا التي تتحدث عن التضحية بالأرواح لأجل الوطن، ومنتصب القامة أمشي، والكثير غيرها من الأناشيد الثورية.
هنالك قيم إنسانية كان يبدو أنّها ماتت، وقد بدا العالم كلّه لا مباليًا، ولكن عدم قدرة الاحتلال على الحسم السريع للحرب أتاح للعالم أن يرى ويدرك أنّ ما يجري ليس حربًا، وكما قال رئيس وزراء إسبانيا بيدرو سانشيز أمام الأمم المتحدة: “إنّ ما يجري ليس دفاعًا عن النفس ولا حربًا عادية، بل هي حرب إبادة ضد شعبٍ أعزل”.
أسهم في نشر الحقيقة عشرات آلاف النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي من العرب وغير العرب، والصحفيون الذين استُشهد منهم حتى الآن 252 صحفيًا منذ بدء حرب الإبادة، كذلك الفضائيات التي نقلت حقيقة بعض ما يجري من جرائم إبادة، إضافة إلى تداعيات إغلاق اليمن للملاحة باتجاه إيلات، وإسناد حزب الله لغزّة، والحملة العسكرية ضد إيران، وأخيرًا محاولة اغتيال الوفد المفاوض في قطر.
لقد دفعت غزّة عقارب الساعة إلى مرحلة جديدة من يقظة المشاعر الإنسانية التي ترفض أن تدير ظهرها لآلام الآخرين، حتى لو كانوا من ديانة أو قومية مختلفة أو بعيدين جغرافيًا.
هذه الحملة الأممية تذكّر بقافلة الصمود المغاربية في يونيو 2025م التي ضمّت 1500 إنسان من دول المغرب العربي، تصدّى لها نظام السيسي المصري واعتقل عددًا من المشاركين وأهانهم، ودسّ عناصر مخابراته للاعتداء عليهم، كذلك اعتدت عليهم قوات خليفة حفتر في ليبيا الذي يُعتبر حليفًا للسيسي.
غزّة فرزت العالم إلى التقسيم الطبيعي، وهو: الانتماء إلى مبدأ حرية الإنسان وكرامته، أو الانتماء إلى النازية والفاشية والعنصرية والدكتاتورية والاحتلال والعدوان.
إضراب عشرات المدن في إيطاليا وفرنسا وغيرها تضامنًا مع فلسطين، وإعلان دول كثيرة وقف تصدير السلاح للاحتلال، ومنع سفن تحمل سلاحًا لإسرائيل من المرور في موانئها، ومنع الطيران الحكومي الإسرائيلي من المرور في أجوائها، ومحاولات طرد إسرائيل من المحافل الرياضية والفنية وعزلها، وتقديم الشكاوى لمحكمة الجنايات الدولية بمبادرة دول ليست عربية.
كلها إشارات إلى أنّ البشرية تستطيع استعادة روحها الجميلة المترفعة عن العصبيات الضيّقة.
الشعوب العربية تتضامن مع شعب فلسطين، وحيث سُمح لها خرجت وتظاهرت وطالبت بمعاقبة الاحتلال ورفضت التطبيع معه، لكن معظمها ما يزال مقموعًا وعاجزًا عن التعبير عن مشاعره تجاه ما يجري في قطاع غزّة حتى الآن.
لقد أعادت غزّة المعادلة الصحيحة: العالم ينقسم بين من يحترمون الإنسان وحقّه في العيش بحرية وكرامة ويسعون إلى السلام بين الشعوب والأمم على أسس من العدل والمساواة، وبين قوى الشر التي لا تفكّر إلا في تكريس الاحتلال والسيطرة على مقدّرات وخيرات الشعوب والسلب والنهب والقمع والقتل والدوس على أبسط حقوق الإنسان.
*كاتب فلسطيني