الأزمة بين أمريكا وفنزويلا.. هل تتحول إلى حرب شاملة؟

مكافحة المخدرات تترنح أمام معادلة سباق النفوذ

يشهد التوتر بين الولايات المتحدة وفنزويلا تصعيدًا عسكريا غير مسبوق، بعد قرار ترامب نشر 3 مدمرات صاروخية وغواصة والآلاف من مشاة البحرية الأمريكية بالقرب من سواحل فنزويلا لمكافحة ما سماه تجارة المخدرات، في خطوة دفعت كاراكاس إلى إعلان حالة استنفار قصوى في صفوف الجيش وإطلاق حملات تعبئة شعبية واسعة أشاعت مخاوف لدى دول أمريكا اللاتينية من صراع مسلح قد يهدد استقرار دول المنطقة.

تحليل / أبو بكر عبدالله

حتى اليوم لاتزال القوات الأمريكية المنتشرة جنوب البحر الكاريبي بالقرب من سواحل فنزويلا تتحرك بحذر في إطار مهمتها المعلنة بمكافحة تهريب المخدرات تحسبا من اندلاع حرب مع قوات الجيش الفنزويلي التي أعلنت حالة تأهب لمواجهة أي غزو محتمل من القوات الأمريكية المرابطة بالقرب من سواحلها.

ومنذ مطلع الشهر الجاري تعيش العاصمة كاراكاس وسائر المدن الفنزويلية أجواء حرب مع إعلان الرئيس نيكولاس مادورو وضع الجيش في حالة تأهب وتشكيل أكثر من 5 آلاف كتيبة من القوات الشعبية في إطار خطة لنشر 4.5 مليون مسلح من القوات الشعبية البوليفارية، للمشاركة في استراتيجية الدفاع الوطنية في ظل تصاعد التوترات مع الولايات المتحدة التي أعلنت ضمن أهداف تحركاتها العسكرية الإطاحة بالرئيس مادورو وحكومته.

السبب المعلن من البيت الأبيض لنشر قواته في جزيرة بورتوريكو القريبة من سواحل فنزويلا هو مكافحة تهريب المخدرات، حيث تتهم واشنطن الحكومة الفنزويلية بقيادة « كارتل إرهابي لتهريب المخدرات» وتصف الرئيس مادورو، بأنه «زعيم هذا الكارتل» كما تعتبره مطلوبا فارا من وجه العدالة.

غير أن الحكومة الفنزويلية والرئيس مادورو اعتبروا الروايات الأمريكية ذرائع مختلقة تخفي أهدافاً أخرى بما سماه «هجوم إجرامي» من خلال تعزيز الوجود العسكري الأمريكي في جنوب الكاريبي، تحت ذريعة مكافحة تجارة المخدرات» معتبرا أن بلاده تكافح عمليات التهريب للكوكايين.

ذلك ما عبرت عنه أيضا نائبة الرئيس ديلسي رودريغيز اباي التي أعلنت أن الإمبريالية تسعى للاستيلاء على فنزويلا لتعزيز اقتصاداتها غير المشروعة وتأمين احتياطاتها النفطية ومواردها الأخرى في إشارة إلى الثروة النفطية الهائلة التي تملكها فنزويلا.

الدليل على ذلك كما يقول الرئيس مادورو إرسال واشنطن مدمرات وغواصات أمريكية إلى البحر الكاريبي مقابل سواحل فنزويلا بصورة غير مبررة.

وطبقا لتقارير أمريكية فقد شرعت واشنطن هذه المرة بنشر نحو 4 آلاف عنصر من مشاة البحرية إلى المنطقة، ما جعل هذا الانتشار يتعدى مهمة مكافحة المخدرات، إلى مهام ذات ابعاد جيوسياسية غير بعيد عنها ممارسة الضغوط على نظام الرئيس مادورو ومحاولات حماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية في منطقة من اهم مناطق التنافس الدولي على النفوذ.

استعدادات عسكرية

رغم إعلان الرئيس مادورو وضع سلاح بلاده في أيدي الجيش والكتائب الشعبية البوليفارية لا تزال كاراكاس تعلن حتى اليوم أنها في مرحلة كفاح غير مسلح تتصدرها الجهود السياسية والدبلوماسية والاتصالات الدولية لتجنب اندلاع حرب، غير أن المسؤولين في كاراكاس يؤكدون استعدادهم الانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح إن تعرضت بلادهم لهجوم عسكري أمريكي.

مع ذلك فان مرحلة التحركات الدبلوماسية لم تخل من استعدادات دفاع وهجوم بدأت فعليا على الأرض، ببد كاراكاس حملات تعبئة عامة للقوات الشعبية البوليفارية في انحاء البلاد وبدء تشكيلات الجيش الفنزويلي الاستعداد لاحتمال غزو من القوات الأمريكية المرابطة جنوب البحر الكاريبي.

هذه التحركات جاءت ردا على ما اعتبر تصعيدا من واشنطن بقرار الجيش الأمريكي توسيع نشر قواته في البحر الكاريبي، وإرسال 10 من مقاتلات F-35 إلى قاعدة في بورتوريكو تحت مهمة مكافحة عصابات المخدرات، فضلا عن نشرها طائرات تجسس من طراز P-8 وغواصة هجومية و3 مدمرات مجهزة بصواريخ “إيجيس” بينما شرعت قوات من مشاة البحرية الأمريكية بتدريبات واسعة على إنزال قوات في بورتو ريكو على بعد 800 كم فقط من فنزويلا.

وفي واحد من مؤشرات التوتر حلقت مقاتلتان من طراز F-16 تابعة لسلاح الجو الفنزويلي بالقرب من المدمرة الأمريكية DDG 109 جيسون دونام في البحر الكاريبي في حدث اعتبرته واشنطن “خطوة استفزازية “.

وبعيد الحادث أعلن البنتاغون أن العملية تمت في المياه الدولية ووجه رسالة تحذير شديدة لكاراكاس “ننصح العصابة التي تدير فنزويلا بعدم القيام بأي جهد إضافي لعرقلة أو ردع أو التدخل في عمليات مكافحة المخدرات ومكافحة الإرهاب التي ينفذها الجيش الأمريكي” في إشارة إى الغارة الأمريكية التي استهدفت قبل الحادث بيومين قارب قالت واشنطن انه انطلق من فنزويلا محمّلا بالمخدرات ومتجها إلى الولايات المتحدة، ما أدى إلى مقتل 11 شخصا على متنه.

الرؤية الأمريكية

حتى اليوم تبرر الولايات المتحدة انتشارها العسكري بأنه جزء من جهود مكافحة تهريب المخدرات، حيث تتهم الحكومة الفنزويلية بقيادة “كارتل إرهابي لتهريب المخدرات” يقوده الرئيس نيكولاس مادورو.

كانت واشنطن ضاعفت المكافأة المالية لمن يقدم معلومات تقود إلى اعتقال مادورو إلى 50 مليون دولار في أغسطس 2025، في إطار الضغوط التي كانت تمارسها على فنزويلا قبل ان تنتقل إلى مرحلة أكثر تعقيدا بالتدخل العسكري في تنافس دولي شديدة الحساسية.

وغالبا ما تتحدث واشنطن عما تسميه “جماعات الإرهاب المرتبط بالمخدرات” والتي تهدد الولايات المتحدة بتهريبها كميات هائلة من شحنات الكوكايين أو الفينتانيل إلى الأراضي الأمريكية، وترى لذلك وبحسب تصريحات وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو أن ما سيوقفهم هو فقط تفجيرهم والتخلص منهم”.

وتقول واشنطن أنها حاولت خلال السنوات الماضية الضغط على حكومة الرئيس مادورو بالعقوبات التي تسببت بأزمات اقتصادية كبيرة لبلد يعد من أكثر دول العالم غنى بالموارد النفطية، كما تسببت بحسب تقارير دولية بهجرة 5 ملايين نسمة اضطروا لمغادرة البلاد بحثا عن سبل العيش.

والواقع أن ما تقوله واشنطن بشأن تهريب المخدرات ليس سوى تقديرات تفتقد إلى البيانات الموثوقة بشأن الحجم السنوي لتجارة المخدرات، حيث تقدم الولايات المتحدة اتهامات عامة تتهم فيها نظام مادورو شخصيا بقيادة شبكات لتهريب المخدرات دون أن تقدم أدلة دامغة بينما يدافع الجانب الفنزويلي عن نفسه بأن بلاده ليست سوى منطقة عبور بكميات قليلة ويؤكد أن بلاده تتبع برامج مكافحة صارمة لهذه التجارة.

والتأمل العميق لهذه التداعيات يكشف عن وجود قلق أمريكي كبير من احتمالات التقارب بين فنزويلا وكل من روسيا والصين لما يمثله ذلك من تحدى للنفوذ الأمريكي في منطقة كانت حتى وقت قريب منطقة نفوذ أمريكي خالصة.

أهداف خفية

وفقا للرواية الفنزويلية، فإن التحركات العسكرية الواسعة للإدارة الأمريكية في منطقة البحر الكاريبي تحاول التخفي وراء شعارات مكافحة تجارة المخدرات، في حين أنها تستهدف فرض حصار أكبر على الشعب الفنزويلي الخاضع للحصار والتجويع منذ سنوات طويلة نتيجة ارتباط النظام الفنزويلي بقضايا الشرق الأوسط ومعاداته للسياسات الأمريكية.

والكم الكبير للقوات التي نشرتها واشنطن حتى الآن ترجح هذه الفرضية إذ أن مكافحة تهريب المخدرات في منطقة مياه مفتوحة لا يحتاج إلى مدمرات وغواصات حربية ومقاتلات حديثة ومروحيات بهذا الحجم خصوصا وان من يحرك هذه التجارة عصابات تهريب تعتمد على قوارب صغيرة يسهل اعتراضها بقوارب تابعة لقوات خفر السواحل.

ولم يعد خفيا وجود أسباب أعمق تتعلق بالموارد الاستراتيجية، حيث تمتلك فنزويلا أكبر احتياطيات النفط في العالم وكانت دائما في صلب السياسة الخارجية الأمريكية.

يضاف إلى ذلك العلاقات المتطورة التي تربط حاليا فنزويلا مع روسيا والصين وإيران وهي العلاقات التي زادت من الأهمية الاستراتيجية لفنزويلا في نظر واشنطن التي صارت تتبنى بوضوح خطة للإطاحة بالرئيس مادورو وحكومته.

الحساسية من هذه العلاقات تزايدت مع قرار البرلمان الفنزويلي مؤخرا الموافقة على اتفاقية تعاون وشراكة استراتيجية مع روسيا وإعلان الرئيس مادورو نيته توسيع التعاون الاقتصادي مع موسكو فضلا عن اعتباره منظمة التجارة العالمية قد انتهت وان الاقتصاد العالمي صار اليوم بلا قواعد.

واحتمالات اندلاع الحرب بين واشنطن وكاراكاس تظل قائمة مع كشف بعض وسائل الإعلام الغربية عن أهداف أخرى تدرسها إدارة ترامب ومنها ضرب أهداف داخل فنزويلا كجزء من استراتيجية أوسع لإضعاف السيطرة وفي النهاية إسقاط الرئيس مادورو ونظامه وهو سيناريو مرشح للتصاعد من جانب فنزويلا التي تعهدت بالمقاومة الطويلة الأمد.

سيناريوهات مرجحة

رغم التسريبات الخطيرة والتصريحات الأمريكية النارية فإن الكثير من المعطيات المحلية والدولية تُرجح أن سيناريو الحرب الشاملة بين واشنطن وكاراكاس بعملية عسكرية أمريكية واسعة النطاق تشمل القوات البرية والجوية والبحرية، هو أضعف السيناريوهات.

والسبب في ذلك هو الكلفة الكبيرة التي ستتكبدها الولايات المتحدة والصعوبات التي ستواجه قواتها في بلد تشكل من تضاريس معقدة، وأكثر من ذلك البنية العسكرية التي تملكها فنزويلا والتي تمنحها القدرة على خوض حرب طويلة قد تستمر لسنوات وربما لعقود.

يقلل هذا السيناريو الاستعدادات العسكرية الواسعة النطاق في فنزويلا وحالة التعبئة العامة حتى الآن كامل الأراضي الفنزويلية، في حين ان القوات الأمريكية المتواجدة اليوم بالقرب من سواحها لا تتعدى 4500 جندي وهي غير كافية لعملية غزو واسعة والمجازفة بها سينطوي على مخاطر بشرية وسياسية واسعة.

وفقا لذلك فان من المحتمل أن تلجأ واشنطن في حال تصاعد التوتر إلى عملية عسكرية محدودة لتدمير البنية التحتية الدفاعية والعسكرية والتسبب في اضطرابات تقود إلى خلخلة الوضع الداخلي وإضعاف حكومة الرئيس مادورو قبل إسقاطها بأدوات داخلية.

ثمة سيناريو آخر مرجح أكثر على صلة بالدور الذي يمكن أن تلعبه دول أمريكا اللاتينية المنضوية في إطار تكتل “سيلاك” والتي ترفض بصورة قاطعة التدخل الخارجي، وهو امر قد يدفع واشنطن إلى العودة لسياسات الضغط على كاراكاس مع مواصلة الوجود العسكري بالقرب من سواحلها كنوع من استعراض القوة، مع الاستمرار في سياسة العقوبات الاقتصادية دون التورط في حرب مكلفة.

وفرضية التصعيد المحدود هذه قد تكون خيارا لإدارة ترامب كونها ستبقي التوتر ضمن نطاق الضغوط العسكرية والدبلوماسية دون مواجهة مباشرة، خاصة مع وجود مصالح متعددة الأطراف في هذا البلد.

أكثر التقديرات تؤكد أن الظروف الدولية لن تكون في صالح الولايات المتحدة ان قررت فتح جبهة حرب جديدة في فنائها الخلفي وأكثر ما يمكنها عمله الآن هو المضي بساسة الضغوط القصوى لإحداث تغيير سياسي في فنزويلا عبر مزيج من الضغط الاقتصادي والعسكري والقضائي غير المسبوق لوقف أي سيناريو للتحالف بين فنزويلا وروسيا والصين والذي تعتبره. واشنطن تهديدا لنفوذها في المنطقة.

مع ذلك فمن غير المستبعد أن ما فعلته إدارة ترامب تجاه ملف علاقاتها مع فنزويلا مؤخرا لم يكن سوى محاولة من الإدارة تقديم نفسها للداخل الأمريكي كإدارة قوية وحازمة في ملف الأمن القومي، املا في زيادة شعبية ترامب وتحقيق أهداف سياسية مرتبطة بالمشهد الداخلي الأمريكي.

غير بعيد عن ذلك استخدام هذه الأزمة لتبرير ترحيل المهاجرين الفنزويليين من الولايات المتحدة وهو ما أفصح عنه ترامب مؤخرا بدعوته سلطات كاراكاس إلى استقبال آلاف السجناء الفنزويليين الخطرين الذين يقضون عقوبات في السجون الأمريكية، ناهيك بدءه تحركات لطرد أعداد كبيرة أخرى ضمن إجراءات قانون الهجرة.

قد يعجبك ايضا