أحدثت معركة طوفان الأقصى تحولات عميقة على المستويين الإقليمي والدولي، تجاوزت حدود الميدان العسكري لتنعكس على البنية السياسية والجيوسياسية وحتى النفسية للشعوب والأنظمة معاً. فقد كشفت هذه الأحداث هشاشة الكثير من التحالفات الإقليمية، وعرّت زيف الادعاءات المتعلقة بالحماية الأمريكية، وأبرزت حجم التناقض بين توجهات الشعوب العربية والإسلامية وبين سياسات بعض الحكومات التي راهنت على التطبيع والارتماء في أحضان العدو الصهيوني.
لقد أسهمت هذه المعركة في إحياء الوعي المقاوم لدى الشعوب العربية والإسلامية، ورسخت قناعة بأن الإرادة والشجاعة قادرتان على قلب موازين القوى مهما بلغ التفوق العسكري والتكنولوجي للعدو. كما ولّدت حالة غضب عارمة ضد السياسات الرسمية التي تماهت مع الكيان الصهيوني، وأعادت الاعتبار لخطاب المقاومة بوصفه الخيار الأجدر والأكثر فاعلية. وعلى الجانب الآخر، ساهمت صور القصف والمجازر في غزة في تعرية الوجه الحقيقي للصهيونية أمام الرأي العام العالمي، مما أدى إلى تصاعد موجة احتجاجات غير مسبوقة في العواصم الغربية، وهو ما شكل ضغطاً على الحكومات الداعمة لإسرائيل.
وعلى الرغم من أن بعض الأنظمة العربية قدّمت مليارات الدولارات للولايات المتحدة وسارت في مسار التطبيع اعتقاداً بأن ذلك يضمن لها الحماية والأمن والاستقرار، إلا أن الأحداث الأخيرة أثبتت أن هذا الرهان كان وهماً كبيراً. فقد تعرضت قطر، على سبيل المثال، لهجوم صهيوني بضوء أخضر أمريكي رغم شراكتها الاستراتيجية وتحالفها مع واشنطن، في خطوة صادمة كسرت هيبة الاتفاقيات الأمنية وأهدرت السيادة والكرامة الوطنية أمام مرأى العالم. لم تشفع تلك العلاقات الخاصة ولا الامتيازات الاقتصادية ولا الهدايا السياسية، إذ تلاشت جميعها أمام المصالح الاستراتيجية العميقة بين واشنطن وتل أبيب.
لقد أظهرت التجربة أن الاعتماد على الولايات المتحدة كضامن للأمن ليس سوى رهان خاسر، فهي لا تتحرك إلا وفق مصالحها ومصالح إسرائيل بغض النظر عن شركائها العرب، كما كشفت الازدواجية الأمريكية في استخدام قواعدها العسكرية وأدواتها الدفاعية بانتقائية، فلا تُسخّر إمكاناتها إلا حيث تتقاطع مصالحها المباشرة. في المقابل، برزت تحولات في موازين القوى الدولية من خلال صعود قوى بديلة مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية، وهو ما يمنح الدول العربية فرصة لإعادة التوازن في علاقاتها الخارجية، وفتح آفاق جديدة لتحالفات قائمة على تبادل المصالح بعيداً عن منطق التبعية.
إن الخيارات الاستراتيجية المتاحة أمام الدول العربية اليوم تبدأ بمراجعة مسارات التطبيع والتوقف عن الارتماء في أحضان الكيان الصهيوني، مع إدراك أن أي تسوية مع العدو لا تضمن الحماية بل تُفقد السيادة والكرامة. كما أن تجاوز الخلافات البينية والسعي نحو توحيد الصف العربي يمثل ضرورة قصوى لمواجهة التحديات المشتركة، فضلاً عن الانفتاح على القوى المناوئة للهيمنة الأمريكية وتعزيز العلاقات معها في مجالات التسليح والتعاون الاقتصادي بما يضمن تنويع مصادر القوة والاستقلالية. وفي صميم هذه الاستراتيجية يبقى دعم المقاومة –سياسياً واقتصادياً وعسكرياً– الخيار الأجدر لحماية الأمن القومي العربي وصيانة الكرامة الوطنية.
لقد أثبتت معركة طوفان الأقصى أن زمن الرهان على الوهم الأمريكي قد ولى، وأن الانصياع لمعادلات التطبيع لم يحقق الأمن ولا الاستقرار للدول التي اختارته. إن الطريق الأمثل يكمن في إعادة بناء منظومة التضامن العربي والإسلامي، والانفتاح على القوى الصاعدة المناوئة للهيمنة الصهيو–أمريكية، ودعم خيار المقاومة باعتباره صمام الأمان الحقيقي للسيادة والكرامة. وبهذا فقط يمكن للأمة أن تواجه التحديات، وترد الصاع صاعين، وتحفظ مكانتها في الساحة الدولية.