الحرب النفسية عبر الفضاء الرقمي: قراءة في أدوات العدو الإسرائيلي وتأثيرها على المجتمع اليمني وسبل المواجهة
عبدالحافظ معجب
تشهد اليمن حرباً مركّبة لم تعد مقتصرة على الميدان العسكري، بل امتدت إلى ساحة الوعي الجمعي عبر ما يمكن تسميته بـ”الحرب النفسية الرقمية”. فقد كثّف العدو الإسرائيلي استخدام الذباب الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي لترويج أخبار مزيفة حول صدور إنذارات بإخلاء أحياء سكنية أو تهديدات بقصف مناطق محددة. وغالباً ما تُدعَم هذه الأخبار بصور وتصاميم مزوّرة تحمل شعارات قنوات معروفة لإضفاء المصداقية عليها. الغاية الأساسية من هذه الحملات ليست تحقيق إنجاز عسكري مباشر، بل إحداث صدمة نفسية وإرباك اجتماعي يؤديان إلى تعطيل الحياة اليومية وإضعاف الروح المعنوية للمجتمع اليمني.
من الناحية النظرية، تُعرَّف الحرب النفسية بأنها الاستخدام المخطّط لوسائل الإعلام وأدوات الضغط النفسي بغية التأثير على إدراك الخصم وسلوكه وإرادته. ويشير خبراء علم النفس السياسي إلى أن هذه الحرب تستهدف ثلاثة مستويات متكاملة: الفرد عبر دفعه إلى القلق والتوتر، والمجتمع عبر تعطيل أنشطته اليومية ومؤسساته، والدولة عبر تقويض الثقة بين المواطن ومصادره الرسمية. ويمثل الذباب الإلكتروني في هذا السياق امتداداً لما يسميه علماء الإعلام “الدعاية السوداء”، حيث تُنشر معلومات كاذبة منسوبة زوراً إلى مصادر موثوقة لإضفاء الشرعية عليها.
الجانب العلمي يوضح أن لهذه الحملات آثاراً مباشرة على الصحة النفسية والاجتماعية. فبحسب دراسات علم الأعصاب، فإن التعرض المستمر لمصادر الخوف الوهمية يؤدي إلى ارتفاع معدلات هرمون الكورتيزول في الجسم، وهو ما ينعكس سلباً على الذاكرة والانتباه وصناعة القرار. ويعرف علماء النفس هذه الحالة باسم “الإجهاد الجمعي”، الذي يتجلى في إحجام الأسر عن إرسال أبنائها إلى المدارس، أو امتناع التجار عن فتح متاجرهم، أو انتشار حالات نزوح مؤقتة. وهكذا تتحول الشائعة من مجرد نص على شاشة الهاتف إلى أداة عملية لشلّ دورة الحياة الطبيعية.
وفي إطار علم الإعلام، يبرز ما يعرف بـ”تأثير تكرار الشائعة”، وهو الميل النفسي لدى الأفراد لتصديق معلومة ما بعد سماعها أو قراءتها مراراً، حتى وإن كانوا في البداية متشككين فيها. وهذا يفسر ضخ العدو للرسالة المزيفة نفسها عبر آلاف الحسابات الوهمية، بما يضاعف من فرص انتشارها وقبولها اجتماعياً. كما تُظهر “نظرية التأطير الإعلامي” كيف أن صياغة الخبر بطريقة معيّنة – مثل استخدام عبارات “إنذار عاجل” أو “تهديد مباشر” – تضع المتلقي في إطار إدراكي ضيق يفسر المعلومة على أنها حقيقة طارئة تستوجب رد فعل سريع.
التجارب التاريخية تثبت أن العدو اعتمد هذه الأساليب مراراً. ففي الحرب الأخيرة على لبنان عام 2024، لجأ إلى إرسال رسائل نصية مباشرة لسكان العاصمة بيروت تدعوهم إلى الإخلاء، في محاولة لبث حالة من القلق المجتمعي، لكن التجاوب كان محدوداً بفضل وعي المجتمع والإعلام المقاوم. وفي غزة خلال الأعوام 2014 و2021، استخدم رسائل هاتفية وإنذارات بالإخلاء، بعضها صحيح وبعضها الآخر مجرد إشاعات. وقد نجحت هذه الأساليب جزئياً في دفع بعض العائلات للنزوح المؤقت، لكنها فشلت في إحداث انهيار اجتماعي شامل. وفي سوريا والعراق، لجأت جماعات مدعومة أمريكياً وإسرائيلياً إلى تسويق شائعات عن “انسحابات وشيكة” أو “هزائم كبيرة”، لكنها انهارت مع انكشاف الواقع الميداني. هذه الأمثلة تبيّن أن نجاح الحرب النفسية ليس مضموناً، بل يعتمد على مستوى الوعي الجمعي وسرعة الرد الإعلامي.
في السياق اليمني، تسعى هذه الحرب إلى إعادة إنتاج معادلة “الهزيمة الداخلية” عبر خلق بيئة وهمية من الخوف والتوتر. ولذلك فإن المواجهة تقتضي استراتيجية متعددة المستويات: أولاً، التربية الإعلامية للمجتمع عبر نشر ثقافة التحقق من الأخبار ومصادرها وتحصين الأفراد من الانجرار وراء الرسائل المجهولة. ثانياً، الاستجابة الإعلامية السريعة التي تقدم رواية دقيقة وبديلة فوراً، لأن أي تأخير يمنح الشائعة فرصة للانتشار. ثالثاً، حملات التوعية المجتمعية في المدارس والجامعات والمنابر الدينية والفضاء الرقمي لشرح طبيعة الحرب النفسية وأهدافها. رابعاً، تعزيز الثقة بالمؤسسات الوطنية باعتبارها مصدر المعلومة الموثوقة، وهو ما يحرم العدو من البيئة الخصبة التي تحتاجها الشائعة للانتشار.
إن الحرب النفسية التي يخوضها العدو الإسرائيلي ضد اليمن عبر الذباب الإلكتروني ليست ظاهرة إعلامية عابرة، بل جزءاً من استراتيجية تستهدف الوعي الجمعي كمقدمة لإضعاف الموقفين السياسي والعسكري. غير أن التجارب أثبتت أن الشعوب الواعية والمتماسكة قادرة على تحويل هذه المحاولات إلى سلاح مرتد على مطلقها. وفي الحالة اليمنية، فإن التمسك بالحياة اليومية ورفض الانجرار إلى حالة الذعر يعد في ذاته فعلاً مقاوماً يواجه سلاح الشائعة. فالمعركة اليوم لا تقتصر على الجبهات العسكرية، بل تمتد إلى ساحات الإدراك والوعي، حيث يشكّل الصمود النفسي والمعنوي خط الدفاع الأول والأكثر رسوخاً.