في غزة، لا تُوزع أرغفة الخبز، بل تُوزع نعوش الشهداء. هناك، لا يقف الناس في طوابير الحياة، بل في طوابير الشهادة. وفي كل مرة يُطلق فيها الاحتلال رصاصه على الجياع، يُسقط وجعًا جديدًا على أكتاف التاريخ، ويكتب بجثث الأبرياء فصولًا دامية من الظلم.
لم تكن الحكاية هذه المرة عن مقاتلين، ولا عن مقاومة، ولا حتى عن اشتباك، بل كانت عن بشرٍ يقفون في طابور للحصول على كيس دقيق أو علبة طعام أو قنينة ماء.. عن أطفالٍ يتسابقون نحو شاحنة مساعدات، فيسقطون برصاصات لا تميز بين بطن جائع ويدٍ ترتجف من الحاجة.
غزة، المدينة المحاصرة بالحديد والجوع والصمت، لا تنكسر، لكنها تنزف. تنهض كل صباح لتواجه قدرها، وتعلم أبناءها أن الرصاص قد يكون أقرب من الرغيف، وأن الخبز في أرضها يُدفع ثمنه دمًا لا مالًا.
رصاص الاحتلال لا يسأل عن اسم الضحية، ولا يفرق بين طفلٍ يحلم بالحليب وشيخٍ يركض خلف علبة طحين. هو فقط يطلق النار، ثم يُصدر بيانًا، ويكمل العالم صمته وكأن شيئًا لم يحدث، وكأن الدم في غزة لا لون له.
أي منطق هذا الذي يجعل طلب الطعام «جريمة»، والسعي خلف لقمة العيش «ذريعة للقتل»؟
أي قانون هذا الذي يمنح لجنود الاحتلال الحق في حصد أرواح الجوعى، بينما العالم يتثاءب أمام شاشاته ويكتفي بموجز أخبار بارد؟!
ما يحدث في غزة ليس فقط قتلًا بالجوع أو بالرصاص، بل قتل بالخذلان، بالخذلان العربي والدولي، وبالضمير الغائب.
لكن غزة، برغم كل ذلك، ما تزال تقف. تتحدى. تبكي، نعم، لكنها لا تنكسر.
وفي كل مرة تسقط فيها برصاص الاحتلال، تنهض أكثر شموخًا، وتحمل شهداءها على الأكف لا على الأكتاف، وتقول للعالم:
«رصاصكم يكتب الموت، لكننا نحن من نكتب الحياة».