قضية “حزب الله” ونزع سلاحه أكبر وأوسع من حدود لبنان الصغير المزدحم بتناقضاته الداخلية والتدخلات الخارجية في شئونه، وفى لقاء صاخب على العادة اللبنانية، قدم الصحفي اللبناني المناصر للمقاومة “فادى بودية” دفاعا لافتا، وسأل تطبيق الذكاء الاصطناعي ” شات جي بي تي ” الأمريكي المنشأ عن تجارب نزع سلاح حركات المقاومة في التاريخ الإنساني، وعن أثر نزع سلاح “حزب الله” إن حدث، ولم يكن جواب التطبيق الإلكتروني مفاجئا لأحد عارف، ففي كل التجارب التاريخية، كانت النتائج توحشا مضافا لقوة الاحتلال، وفتحا لباب استكمال الإبادات الجماعية والتهجير والتطهير العرقي، وفى حالة لبنان بالذات، كان جواب “شات جي بي تي” صريحا قاطعا، وخلاصته ببساطة، أن لبنان سيعود في حالة نزع سلاح المقاومة إلى ما قبل عام 2000 .
وبديهي أن جواب “شات جي بي تي” الآلي المحايد بطبعه لن يغلق باب الجدال المستعر في لبنان، فقضية “حزب الله” هي ذاتها قضية المقاومة في “غزة” وفلسطين، وما يراد بنزع سلاح حركات المقاومة، هو إشهار الاستسلام لرغبات وأهداف كيان الاحتلال “الإسرائيلي” ونصيره الأمريكي، ولا يسع أي عاقل صاحب ضمير حي، إلا أن يرفع الصوت عاليا ضد نزع سلاح أي حركة مقاومة مادام الاحتلال باقيا، وقد يقال لك أن لبنان دولة مستقلة معترف بها في الجامعة العربية والأمم المتحدة، وأن من شروط سلامة الدولة أن يكون لها جيش واحد، وأن يحصر السلاح الشرعي فيه، وهذا كلام صحيح بصفة عامة مجردة، لا تتوافر شروطها في حالة لبنان، فاستقلال لبنان ناقص، وخمس مواقع جنوبية فيه لا تزال محتلة من قبل العدوان “الإسرائيلي” شمال الخط الأزرق، فما بالك بمواقع أخرى عديدة لا تزال “إسرائيل” تحتلها من زمن، وتقع خارج خط الحدود المتفق عليه في هدنة 1949، فلم يتوقف عدوان كيان الاحتلال أبدا على لبنان منذ إقامة هذه “الإسرائيل”، ومن مجزرة “الحولة” عام 1949 إلى عدوان 1978 واجتياح لبنان عام 1982، ولم يدخل جيش لبنان الرسمي أبدا في صدام مع جيش الاحتلال، إلا في أحوال موقوتة وبمبادرات فردية، بل أن قسما من الجيش الرسمي جند طاقاته في خدمة الاحتلال بلا حياء، وكون ما عرف باسم “جيش لبنان الحر” من الرائد “سعد حداد” إلى العميد “أنطوان لحد”، الذى سحبوه إلى داخل كيان الاحتلال بعد هزيمة العدو على يد مقاومة “حزب الله”، وانسحابه من غالب الجنوب اللبناني في 25 مايو 2000، وظلت رواتب العملاء تصرف لسنوات طويلة من خزينة الدولة اللبنانية (!) .
وهذه المفارقات المخزية وأمثالها مفهومة في الوضع اللبناني الخاص جدا، فالجيش اللبناني كغيره من مؤسسات الدولة، يجرى تكوينه وتجرى قيادته بحسب المحاصصات الطائفية المريضة، وكل المناصب يجرى توزيعها بحساب طائفي من ميثاق 1943 إلى اتفاق الطائف بعد الحرب الأهلية الطويلة المريرة، ويسرى التوزيع ذاته في كل القطاعات بين 18 طائفة دينية كبرى وصغرى معترف بها، ويجرى نقل الصورة المعتلة إلى داخل الجيش نفسه، وكل طائفة ـ كبرى على الأقل ـ لها ارتباطاتها الثقافية والسياسية خارج لبنان، إضافة لكون لبنان الهش
ساحة مفتوحة لعمل أجهزة المخابرات الخارجية من كل صنف ولون، ومع تحول الوضع العربي عموما إلى حالة “التحلل الرمي” الراهنة، لم يعد هناك من تأثير عربي إيجابي في الوضع اللبناني، مثلما كان الأمر عليه زمن جمال عبد الناصر والحالة “الشهابية” في لبنان، وبعد رحيل عبد الناصر بسنوات قليلة، دخل لبنان في حرب أهلية دموية سقط فيها نحو 150 ألف قتيل، وفى قلب زمن الحرب الأهلية، كانت قطاعات من اليمين المسيحي توثق صلاتها بكيان الاحتلال “الإسرائيلي”، وهى ذات القطاعات التي تعاود نشاطها الآن في خدمة “إسرائيل” ونصيرتها أمريكا، وأضيفت إليها أصوات من الطائفة السنية المفتتة التمثيل السياسي، مع إضافة تأثير خليجي منتفخ ماليا، وخاضعا في السياسة لرغبات وأهداف العدو “الإسرائيلي” الأمريكي، وكل هؤلاء ـ مع غيرهم ـ كانوا وراء توريط الحكومة اللبنانية في قرارات نزع سلاح “حزب الله” الشيعي المنشأ، وشن حملة تكفير سياسي وديني ضد الطائفة الشيعية التي تمثل ثلث سكان لبنان اليوم، وبدعوى أن “حزب الله” إيراني الولاء .
وكأن “حزب الله” حين حرر الجنوب اللبناني كان يخدم إيران، وكأن “حزب الله” حين دفع دم الآلاف المؤلفة من الشهداء في معركة التحرير الطويلة الممتدة لنحو عشرين سنة، أو في حرب يوليو 2006، أو في حرب الإسناد للمقاومة الفلسطينية في “غزة”، أو في التصدي البطولي الإعجازي لعدوان الاحتلال الأخير في حرب الستة والستين يوما، التي أعطى فيها “حزب الله” خمسة آلاف شهيد على الأقل، وراح ضحيتها عدد هائل من أبرز قادته، وفى طليعتهم سيد الشهداء “حسن نصر الله”، كأن كل هذه الدماء الزكية كانت تدفع لحساب إيران البعيدة، التي خاضت مع “إسرائيل” حربها بنفسها، ومن دون طلب عون من “حزب الله” ولا من حركات المقاومة الأخرى، بينما ظلت إيران تدفع من مالها وسلاحها إلى “حزب الله” وغيره، وهو ما كان يعترف به السيد “حسن نصر الله” علنا ودونما مواربة، فلم تقدم أي دولة عربية فلسا ولا طلقة رصاص لأى حركة مقاومة عربية في العقود الخمس الأخيرة، وكان أولى بالدول العربية أن تفعل لو كانت عربية السياسة حقا، لكن الأحوال على ما نعرف من هوان ما بعده هوان، وكأن تهمة “حزب الله” أنه يقاوم بما يصل إلى يده وعقله وقلبه من سلاح وإيمان، ومن حق “حزب الله” ردا للعدوان على سلاحه ومواريث شهدائه العظام، أن يرفض نزع سلاحه وتوريط الجيش اللبناني في الخطيئة الكبرى، ولو حدث شيء من ذلك لا قدر الله، فلا أحد يضمن الحد الأدنى من سلام واستقرار لبنان الداخلي، ولا أحد يضمن ألا يتمزق الجيش من داخله، ولا أحد يضمن ألا يذهب لبنان إلى حرب أهلية جديدة لا تبقى ولا تذر .
وقد يقال لك، أنه ليس من حق أحد التدخل في شؤون لبنان الداخلية، وهذا كلام حق تكذبه الوقائع الملموسة، فليست إيران وحدها التي تفتى في الشأن اللبناني، بل كل الأطراف والأطيار من كل جنس، من فرنسا الأم الرءوم للكيان اللبناني الأول، إلى أمريكا التي تعتبر نفسها الآمر الناهي في شأن لبنان وسوريا وعدد غالب من أصحاب الأزياء العربية، ومن الخلف كما من الأمام، تقود “إسرائيل” ركب التدخل الأمريكي والعربي المزور، وتعتبر “توماس براك” ـ ومن قبله وبعده ومعه “مورجان أورتاجوس” ـ ممثلها في الشأن اللبناني، قبل وبعد كونه مبعوثا للرئيس الأمريكي الأهوج “دونالد ترامب”، ويفرض رئيس وزراء العدو “بنيامين نتنياهو” أجندة أولوياته على الجميع، فهو يريد أن ينزعوا له سلاح مقاومة “حزب الله” جنوب الليطاني وشماله وفى كل لبنان، وقد شنت طائراته الأمريكية أكثر من أربعة آلاف غارة ضد “حزب الله” وبيئته بعد وقف إطلاق النار المعلن رسميا أواخر نوفمبر 2024، استشهد بسببها مئات من قادة وعناصر الحزب، ومن دون أن يرد الحزب حتى تاريخه، على سبيل إفساح المجال للدولة اللبنانية أن ترد هي على العدوان، وهو ما لم يحدث، اللهم إلا على طريقة “ميشال منسى” وزير الدفاع اللبناني، الذى رد مرة على منتقدي الحكومة لانعدام ردها على العدوان المتكرر بصفة شبه يومية، وكان رده البليغ نصا “نحن نرد بالبرستيج”، وبدا رد الوزير الهمام مثالا فريدا في البلاهة، فالبرستيج تعبير فرنسي يشير إلى الهيبة أو السمعة أو المكانة المرموقة التي يتمتع بها شخص أو شيء ما، وقد سقط “برستيج” الوزير “منسى” حتى قبل أن ينطق به، وربما يكون عليه أن يشترى غيره (!) .
وبالجملة، فلا أحد عاقل يصدق، أن لبنان العزيز سيكون بخير وكرامة، إذا جرى ـ لا قدر الله ـ نزع سلاح “حزب الله”، وهو جيش لبنان الحقيقي الأقوى إضافة للجيش الرسمي الممنوع أمريكيا و”إسرائيليا” من تسليح مناسب، يتعدى عدة “البرستيج” الكوميدية، والخصم من قوة لبنان يجعله في مهب الريح، ويعطى “إسرائيل” الفرصة لاجتياحه حتى نخاع العاصمة “بيروت”، تماما كما جرى قبل ميلاد “حزب الله” أوائل ثمانينيات القرن العشرين، ومن لا يتعظ بتجارب التاريخ ودروسه، لا يملك القدرة على الإمساك بمفاتيح المستقبل، وبالذات في لحظة الفوضى المرعبة التي تجتاح المنطقة اليوم، وتهدد بإلحاق لبنان ـ كما سوريا وغيرها ـ بأمن ومعية وهيمنة كيان الاحتلال “الإسرائيلي” .
* كاتب مصري