النفط تحوّل من شريان حياة إلى لعنة، والودائع تحوّلت إلى قيود
المحافظات المحتلة:حكاية صيف لاهب وانهيار اقتصادي بين غضب الشعب ورهانات القوى العظمى
بنك عدن المركزي تحوّل إلى جبهة حرب اقتصادية تُدار بالورق لا بالرصاص
انهيار العملة اليمنية كانت الضربة القاضية التي أفقدت المواطن قوته الشرائية
الشرارة التي أشعلت الثورات الشعبية في المحافظات المحتلة لم تكن سوى انهيار العملة، ولهيب الصيف لم يكن إلا وقوداً لغضب الجياع، وحينما أوشكت السفينة على الغرق، ظهرت «اليد الخفية» لتُبقيها عائمة، لكن ببوصلةٍ تُدار من واشنطن.
من 251 إلى 1500 ريال؛ لم يكن انهيار العملة رقماً، بل كان مرآةً لواقعٍ يتهاوى، وشرارةً أوقدت غضبَ الشارع.
لقد كان القرار الذي اتخذ عام 2016 نقطة اللاعودة؛ فبينما استقر سعر الدولار عند 533 ريالاً في صنعاء، تهاوى الريال في عدن ليصل إلى 2900 على وقع دعم بـ1.2 مليار دولار ووعود بـ500 مليون، جاءت واشنطن بمهلة 90 يوماً، مؤكدة أن الإملاءات أهم من الودائع في قصة النهب الكبرى، تحوّل النفط من شريان حياة إلى لعنة، وتحوّلت الودائع إلى قيود تُبقي الوطن على حافة الهاوية هكذا قُسم الوطن بقرار واحد، وتحوّل البنك المركزي إلى جبهة حرب تُدار بالورق لا بالرصاص.
للثورة / أحمد المالكي- يحيى الربيعي
في شوارع عدن ولحج وحضرموت، يتصاعد صوتٌ أعمق من صدى الأزمة الاقتصادية الظاهرة. إنه صوت الغضب الشعبي الذي ترجمته الأيام الماضية إلى تظاهرات كبرى، حيث اختلط دخان الإطارات المشتعلة بلهيب شمس الصيف الحارقة، فيما كانت صيحات الاستنكار تعكس حالة من اليأس العميق من واقع معيشي يزداد قسوة يوماً بعد يوم. لم تكن تلك المظاهرات مجرد رد فعل على ارتفاع سعر صرف العملة المحلية الذي تجاوز 1500 ريال مقابل الدولار، أو على انعدام خدمة الكهرباء، بقدر ما أنها تعبير عن إحساس متراكم بالخيبة من فشل الحكومات المتعاقبة والتحالف في تقديم أي حلول حقيقية.
السؤال المحوري الذي نحاول الإجابة عنه ليس فقط «ما الذي حدث؟» بل «لماذا حدث؟» وهل ما نراه هو «نزوة غضب عابرة» سرعان ما ستبرد بمسكّن خارجي، أم أنها الشرارة الأولى لثورة كبرى تفرض إرادة شعب أنهكته التدخلات الخارجية؟
انهيار العملة كضربة قاضية
كان انهيار العملة اليمنية بمثابة الضربة القاضية التي أفقدت المواطن قوته الشرائية، وجعلت الحياة في المناطق المحتلة ضرباً من ضروب المستحيل. فالريال اليمني الذي كان سعره 251 ريالاً مقابل الدولار عام 2016، تهاوى ليصل إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، حيث تجاوز 1500 ريال قبل أن يصل إلى حدود 2900 ريال للدولار الواحد في فترات لاحقة. هذا الرقم تحول إلى رمزٍ لسرعة تآكل مدخرات المواطنين وتدهور حياتهم لاسيما وقد ترافق هذا التدهور مع ارتفاع جنوني في أسعار المواد الغذائية والسلع الأساسية، مما زاد من معاناة المواطنين الذين يعيش معظمهم تحت خط الفقر المدقع.
شريان الحياة مقطوع
لم تتوقف الأزمة عند تآكل القيمة المالية حتى امتدت لتطال أبسط مقومات الحياة. ففي ظل حرارة الصيف اللاهب، باتت أزمة انقطاع الكهرباء في عدن ولحج وحضرموت عنواناً للمأساة اليومية. المحطات خارج الخدمة لمعظم ساعات اليوم بسبب عدم توفر الوقود، مما يغرق المدن في ظلام دامس ويزيد من معاناة السكان في مواجهة الحر الشديد.
أزمة الوقود تجاوزت مشكلة توليد الكهرباء، لتؤثر بشكل مباشر على النشاطات الاقتصادية الحيوية. ففي خليج عدن والبحر العربي، خرج مئات الصيادين في تظاهرات غاضبة، مؤكدين أن آلاف القوارب توقفت عن العمل بسبب العجز عن توفير الوقود. هذا الواقع دفع بآلاف الأسر التي تعتمد على الصيد كمصدر دخل وحيد إلى حافة المجاعة، ليتحول ما كان يمثل شريان حياتهم إلى شاهد على فشل السلطات. هذا يوضح كيف أن الأزمة الاقتصادية، من انهيار العملة إلى شح الوقود، فاقت الأرقام لتولّد سلسلة من النتائج الملموسة التي تزيد من البطالة، وتحد من الإنتاج المحلي، وتفاقم الأزمة الغذائية والفقر. وفي النهاية، يؤدي هذا التدهور المعيشي إلى موجات غضب شعبية واسعة تطالب بطرد التحالف، مما يبرز كيف أن الأزمة الاقتصادية تتشابك مع أزمة سياسية عميقة.
نقل البنك المركزي
لتحليل جذور هذا الانهيار، لا بد من العودة إلى نقطة التحول المحورية التي شطرت الاقتصاد اليمني إلى نصفين. ففي عام 2016، أصدرت الحكومة الموالية للتحالف والمنتحلة لصفة ما يسمى بالشرعية قراراً بنقل وظائف البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن. لم يكن هذا القرار مجرد إجراء إداري، بل كان تكتيكاً عسكرياً واقتصادياً متعمداً، أعلنه المنتحل لصفة رئيس الجمهورية «هادي» آنذاك بهدف الضغط على صنعاء، حتى وإن كان ذلك سيزيد من مصاعب ملايين اليمنيين.
وقد أدى هذا القرار إلى انقسام مالي ونقدي كامل في البلاد. ففي حين كانت صنعاء تعتمد على العملة المطبوعة قبل عام 2016، بدأت الحكومة في عدن بطباعة كميات كبيرة من الأوراق النقدية الجديدة دون غطاء، مما أدى إلى تدهور قيمتها بشكل كبير وقد تم استخدام هذا القرار كسيف ذي حدين، حيث أن الخطة كانت تستهدف تجويع مناطق صنعاء عبر حرمانها من رواتب موظفي الدولة والإيرادات، لكن النتيجة غير المتوقعة كانت خلق نظامين نقديين منفصلين.
فشل الإدارة مقابل الصمود
منذ قرار النقل، كشفت تقارير الخبراء فشل البنك المركزي في عدن في أداء معظم المهام الموكلة إليه. ففي حين كان سعر الصرف 251 ريالاً للدولار عند اتخاذ القرار، تدهورت قيمة العملة في مناطق سيطرة حكومة الرياض لتصل إلى مستويات قياسية. فقد أخفق البنك في تفعيل دوره في إدارة السياسة النقدية أو الرقابة على البنوك، ولم يستفد من كوادره لتفعيل أدائه.
في المقابل، تمكن بنك صنعاء المركزي من الصمود رغم الحصار الخانق والحرب الاقتصادية الشرسة. فقد حافظ على سعر صرف ثابت للعملة القديمة، أنفق مليار دولار في عام 2016 للحفاظ على قيمة الريال. هذا التناقض يوضح أن قرار نقل البنك كان فاشلاً من الناحية الاقتصادية، ونجح فقط في تعميق الانقسام وتفاقم الأزمة. لقد أثبتت التجربة أن الحرب الاقتصادية هي سيف ذو حدين، حيث أدت إلى نتائج عكسية لم تكن في الحسبان، ففي حين انهارت عدن رغم الدعم الخارجي، تمكنت صنعاء من تطوير آليات صمود خاصة بها.
النفط شريان حياة مجفف
قبل الحرب، كانت عائدات النفط والغاز تشكل نحو 70 % من موازنة الدولة في اليمن. ومع العدوان، تحول هذا المورد الحيوي إلى ورقة ضغط سياسية وعسكرية. وفي أكتوبر 2022، قررت صنعاء منع «نهب» ثروات البلاد، ونفذت «ضربات تحذيرية» على ناقلات النفط في موانئ حضرموت وشبوة، مما أدى إلى توقف تصدير النفط بشكل كامل. كان الهدف المعلن من هذا الإجراء هو الضغط على الحكومة الموالية للتحالف لصرف رواتب الموظفين في عموم اليمن، والتي كانت متوقفة منذ عام 2016.
وقد كانت عواقب هذا القرار وخيمة على اقتصاد حكومة المرتزقة. فوفقاً لمحافظ البنك المركزي اليمني، بلغت خسائره 6 مليارات دولار خلال عامين نتيجة توقف تصدير النفط. هذا التجفيف لأهم مصدر للعملة الصعبة أدى إلى تفاقم انهيار الريال وتدهور الأوضاع المعيشية بشكل متسارع.
تظهر قضية النفط كيف تحول الصراع من مواجهة بين أطراف محلية إلى مواجهة على السيادة الوطنية. فصنعاء استغلت هذه القضية لتوجيه رسالة مفادها أنها المدافع عن ثروات البلاد، بينما كانت حكومة الرياض في موقف ضعيف، حيث لم تتمكن من توفير الرواتب أو إدارة الإيرادات بشكل فعال. هذا الواقع كشف عن ضعفها وفسادها، وزاد من حدة التوتر في علاقتها مع التحالف، ووضع صنعاء في موقف تفاوضي أقوى في أي محادثات سلام مستقبلية.
الدعم كـ»مسكّن» سياسي
في محاولة لوقف الانهيار، قدمت السعودية ودائع مالية لحكومة عدن، حيث أعلنت عن وديعة بقيمة 1.2 مليار دولار في أغسطس 2023 ، ووديعة جديدة بقيمة 500 مليون دولار في ديسمبر 2024، تضمنت 300 مليون. ومع ذلك، يرى الخبراء أن هذا الدعم لا يعدو كونه «جرعة إسعافية» أو «مسكناً مؤقتاً». فالفساد المستشري وسوء الإدارة الحكومية يقللان من قيمة هذه الودائع. هذا الدعم لا يعالج الجذور الهيكلية للأزمة، بل يهدف إلى إطالة أمد بقاء الحكومة الموالية للتحالف. إن الودائع لم تكن مساعدة، وإنما أداة للتحكم السياسي، وهي جزء من حرب «ناعمة» تهدف إلى إخضاع القوى المحلية لأجندات خارجية. ويؤكد هذا المنظور أن الدعم المالي لم يذهب إلى مشاريع تنموية حقيقية، بل استخدم لتمويل النفقات التشغيلية ودفع الرواتب بشكل متقطع، مما يعزز الاعتمادية ويمنع الاستقلال الاقتصادي.
«الاحتلال الاقتصادي» كفكرة رئيسية
يشير الغضب الشعبي إلى أن صورة التحالف كـ»منقذ» أصبحت في مرمى الشك. فالتناقض بين الخطاب الرسمي للتحالف والواقع المنهار على الأرض يضع علامات استفهام حول الأهداف الحقيقية. وقد أظهرت احتجاجات الصيادين في خليج عدن أنهم يتهمون التحالف بــ«الاحتلال الاقتصادي» و«نهب» الثروات، مؤكدين أن الوقود يحرم منه المواطن بينما تفتح الأبواب لتهريب الثروات البحرية والنفطية. هذه الاتهامات تكشف أن التحالف الذي جاء «لتحرير» اليمن هو نفسه الذي يتهمه الشارع بـ»الاحتلال الاقتصادي»، وهي مفارقة كبيرة تستوجب إعادة النظر في السردية الكاملة للصراع.
واشنطن تدخل على خط الأزمة
فجأة، وبلا مقدمات اقتصادية واضحة، شهد الريال اليمني تحسناً ملحوظاً وغير مسبوق. وقد تزامن هذا التحسن مع دخول «يد خفية» على خط الأزمة تمثلت في التدخل الأمريكي المباشر. فبعد إخضاع إدارة البنك المركزي في عدن للخزانة الأمريكية، وجهت واشنطن تحذيراً صارماً لحكومة المرتزقة، مانحة إياها 90 يوماً لتنفيذ إصلاحات شاملة لمكافحة الفساد المستشري، وتوعدت بوضع أي مسؤول يعرقل هذه الإصلاحات في القائمة السوداء.
وقد ارتبط هذا التدخل المفاجئ بقرار الحكومة والبنك المركزي في عدن بتشكيل ما يسمى بـ»اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات»، وإيقاف العشرات من شركات الصرافة المخالفة. كما تم رفع التعرفة الجمركية للدولار، مما أثار مخاوف من موجة تضخم جديدة قد تمحو أي تحسن في سعر الصرف.
تغيير قواعد اللعبة
التحسن الذي شهدته العملة لم يكن نتيجة إصلاحات هيكلية حقيقية أو تدفقات مالية مستدامة، بل كان نتيجة ضغوط سياسية خارجية، مما دفع الخبراء لوصفه بـ«الفقاعة» غير الصحية التي قد تنفجر في أي لحظة. فبينما تحسنت أسعار الصرف، اشتكى التجار من صعوبة بيع بضائعهم بالأسعار الجديدة وطالبوا بتعويضات.
هذا التدخل الأمريكي يبرهن على أن حكومة الرياض لا تمتلك سيادتها الاقتصادية. فالولايات المتحدة، التي فشلت في مواجهة قوات صنعاء في البحر الأحمر، دخلت على خط الأزمة الاقتصادية لمنع انهيار شامل قد يؤثر على استقرار المنطقة بأكملها. هذا التدخل لا يمثل حلاً للأزمة، بل هو تأجيل لحتمية الانهيار، ويؤكد أن مستقبل الريال في الجنوب بات مرهوناً بقرارات خارجية.
نموذج الصمود في الشمال
في مقابل الانهيار الذي شهدته المحافظات المحتلة، صمدت صنعاء في وجه «الحرب الاقتصادية الشرسة» والحصار المفروض عليها. فقد تمكنت من الحفاظ على سعر صرف ثابت للعملة عند مستويات تتراوح بين 533 – 535 ريالاً للدولار الواحد. واستطاعت صنعاء تحقيق هذا الاستقرار النسبي من خلال الحفاظ على تماسك مؤسساتها، وتشجيع المشاريع الصغيرة، وفتح آفاق للتجارة الداخلية، وتنويع مصادر الدخل في ظل استحواذ التحالف على ثروات البلد . إنها دولة تقاتل عسكرياً واقتصادياً وسياسياً من أجل الشعب، وليس ضده.
نموذج الفشل في عدن
في المقابل، لم تتمكن حكومة المرتزقة من إدارة اقتصادها بشكل فعال. وقد أرجع الخبراء هذا الفشل إلى عوامل متعددة، منها تشتت الأطراف وغياب التنسيق بينها ، بالإضافة إلى الفساد المستشري. ففي عدن، لم يكن انعدام الثقة بالبنوك مجرد شعور، بل أدى إلى تسرب العملة المحلية إلى السوق الموازية، مما عمق من الأزمة. هذا يوضح أن الأزمة في عدن ليست بسبب نقص الموارد، بل بسبب فشل الإدارة والفساد الذي منع الاستفادة من أي دعم خارجي.
إن التناقض بين مسار صنعاء ومسار عدن يثير تساؤلات جوهرية: لماذا صمدت صنعاء وانهارت عدن، رغم أن الأخيرة كانت تسيطر على الثروات النفطية وتحظى بدعم التحالف؟ يكمن الجواب في أن الأزمة في الجنوب هي أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة حرب. فبينما تمكنت صنعاء من بناء نظام اقتصادي مركزي، وإن كان قسرياً، فإن عدن بقيت ساحة صراعات ومصالح متضاربة بين فصائل مختلفة، مما منع أي استقرار حقيقي. هذا الواقع يغير تماماً من سردية الصراع، ويؤكد أن الانهيار كان نتيجة حتمية لغياب الإرادة السياسية والإدارة الكفؤة.
تشابك الخيوط ورهانات المستقبل
تتجمع خيوط هذه الحكاية في صورة واحدة معقدة: الحرب الاقتصادية، نهب الثروات، انقسام المؤسسات، والتدخلات الخارجية. كل هذه العناصر تضافرت لتشكل أزمة متعددة الطبقات لا يمكن قراءتها من منظور أحادي. فالأزمة في اليمن هي حرب اقتصادية معقدة يتم فيها استخدام المواطنين كوقود. لا توجد قوى «منقذة» بالمعنى الحقيقي، بل لاعبون يتبنون أجندات متضاربة تحت ستار الدعم الإنساني والتنموي.
إن التحسن الأخير في سعر صرف الريال في عدن هو تحسن هش وغير مستدام، لأنه لم يأت نتيجة إصلاحات هيكلية حقيقية، بل نتيجة ضغوط سياسية خارجية قد لا تدوم. كما أن الانقسام النقدي العميق وانعدام الثقة بين الأطراف يمنعان أي حديث عن توحيد قريب للاقتصاد اليمني. إن السبيل الوحيد للخروج من هذه الدوامة يكمن في حل سياسي شامل يعيد السيادة على الثروات وتوحيد المؤسسات، وهو ما لا يبدو في الأفق القريب.
أما عن مآلات الغضب الشعبي، فمن الصعب التنبؤ بما سيؤول إليه. لكن ما هو مؤكد أن هذا الغضب ليس نزوة عابرة، وإنما نتاج طبيعي لتراكم الفشل والإحساس بالظلم. وفي أي حكاية، تكون نهاية القصة مجهولة، لكن ما هو واضح أن الأزمة الاقتصادية في اليمن وصلت إلى نقطة لا يمكن التراجع عنها، وأن الشعب قد نفد صبره.