العدل من أغلى وأسمى مقومات الحياة؛ فبه تصان القيم، وتستقر المبادئ، وبه يتضاعف شعور الإنسان بالانتماء. وبالعدل يعلو بناء الإنسان، وبه يصان دمه وماله وعرضه.
والعدل في الكلام مبدأ إنساني يحفظ للمتكلم مكانته بين الإخوان، ويدل الصدق فيه على قوة الإيمان. ولهذا جاء في القرآن: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). فمن لم يكن عادلاً في كلامه، تسبب في قطيعة أرحامه، ومعاداة إخوانه، ومؤاذاة جيرانه، وظلم أبناء زمانه.
إن رواية تأسيس دولة استمرت لأكثر من ١٢٠٠ عام في يمن الإيمان، تستدعي تسليط الضوء على دور الشعب اليمني في ذلك، وتميزه في صنع هذه الحقيقة. التي تدل على وجود رباط محكم، وتلازم منظم يقوم على الإيمان والحكمة بين اليمن -أهل الإيمان والحكمة- وبين أئمة أهل البيت عليهم السلام؛ تجلت فيهما كحقيقة تاريخية أظهرتها الحكمة اليمانية باختيار من تتوافر فيه شروط الخلافة الإسلامية، والإمارة الإنسانية، والعدالة الربانية من علماء أهل البيت النبوي، وهو أبو محمد الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي -عليهم السلام-؛ نسب يحاكي إشراقه ضوء النهار، وجوهر يغشى ضوؤه الأبصار. كما نعته بهذه الأوصاف الجليلة والأخلاق الجميلة العلامة أحمد بن عبدالله الجنداري في مقدمة شرح الأزهار.
فسيف العدالة وقلم الإصلاح يتساميان حينما يتجسد الإيمان ويترجم كسلوك عملي؛ أساسه حب الله ورسوله، وحب العمل بكتاب الله، وتطبيق ذلك على الواقع العملي الذي تم في مسألة اختيار الإمام الهادي. والذي عُرف بعلمه، وحكمته، وشجاعته كمصلح اجتماعي يحمل هموم شعب اختاره؛ فيسعى إلى إصلاح المجتمع فيعمق روابط الأخوة الإنسانية والإسلامية، ويحمل راية الجهاد ضد الظالمين. حتى صار رمزاً لاستقلال اليمن ووحدتها، ورائداً للإصلاح الاجتماعي فيها.
وتأتي شهادة علماء السنة ومؤرخوها لتثبت هذه الحقيقة التاريخية، وتؤكد للكافة علمه، وعدالته، وإصلاحه الاجتماعي. كما أشار إلى ذلك العلامة ابن حجر في كتابه (فتح الباري)، والعلامة أحمد محمد القرطبي المتوفى سنة ٦٠٠ هجرية في كتابه (التعريف بالأنساب)، وما أوضحه العلامة ابن عنبة في (عمدة الطالب)، والعلامة العمري في (مسالك الأبصار)، والعلامة الذهبي في (تاريخ الإسلام)، وما أشار إليه ابن حزم الظاهري في (جمهرة أنساب العرب)، وغيرهم الكثير. الأمر الذي يعني أن استمرار دولة أئمة أهل البيت لأكثر من ألف عام كان محسوباً لأهل اليمن والإيمان.
فكما كان لأهل اليمن السبق إلى نصرة الإسلام وتأسيس دولته، كان لهم السبق في احتضان أئمة أهل البيت، وحسن اختيار من تتوفر فيهم الصلاحية. لقد كان أئمة أهل البيت رواداً للثورة في وجوه الظالمين؛ فحفظ اليمنيون بذلك استقلالهم وسيادتهم ودولتهم. فلم تطأ صنعاء أقدام المستعمرين، كما وطأت الكثير من الأقطار الإسلامية. إنها الحكمة اليمانية القائمة على الرشد، وحب المحافظة على الشريعة، ووضع الأمور في مواضعها.
فإن قلت: إن هناك من يظن أن ثورة ٢٦ من سبتمبر قامت ضد أئمة أهل البيت؟ قلنا: هذا هو الظن البيِّن خطؤه. فثورة ٢٦ من سبتمبر لم تتعرض لذلك في مبادئها، وإنما كان توجهها وهدفها في الأساس تغيير النظام الملكي إلى نظام جمهوري، ومحاربة الاستبداد والاستعمار. وحققت نجاحاً في تغيير شكل نظام الحكم؛ فقد أزاحت نظام المملكة المتوكلية وأقامت نظاماً جمهورياً. ولم يكن نظام أهل البيت مستبداً ولا استعمارياً ملكياً؛ وإنما كان دولة أهل البيت التي أسسها الإمام الهادي امتداداً للخلافة الراشدة، الذي أشار إليها الإمام ابن حجر في (فتح الباري). وكانت فاتحة خير، ومطلع يمن، وباب بركة على شعب يمن الإيمان والحكمة؛ وهو الشعب الذي ارتبط تاريخه بمواقف الحق ومواقف الخير، فكان في صدر المجتمعات استجابة وانقياداً للهدى والرشاد.
وهذا العلامة عبدالله عبدالوهاب الشماحي -أحد مؤرخي ثورة ٢٦ سبتمبر- في كتابه (الإنسان والحضارة) ص٢١٦ يقول: “لقد كان الهادي مثلاً لصفات القيادة والقدوة الحسنة لأتباعه؛ مترفعاً عن سفاسف الأمور وعن المتع، شجاعاً في المعارك والأهوال وفي تطبيق ما يؤمن به ويدعو إليه، معتدلاً حتى مع أعدائه”. ترى، فهل يعود أصحاب الظن السيئ عن ظنهم بعد بيان خطئه؟!
فقد تجلّى عدل الإمام الهادي في تطبيقه لأحكام القرآن، وتوجيه الولاة بإقامة العدل ورفضهم الأخذ للضرائب غير المشروعة، وعدم اعناتهم في إخراج الزكاة حتى تبلغ النصاب، وحفظهم من استغلال مراكز النفوذ والمتسلطين، وتوجيه ولاة الأقاليم ألا يأخذوا من الرعية إلا حقا معلوما، وأن لا يحكموا بهوى كما ورد في الكفاية في أخبار الهادوية.
هذه الآليات جعلت الرعية شركاء في الحفاظ على الدولة لا رعايا خاضعين. وقد كان استشارة العلماء وأولي الرأي ديدنهم في نظام الحكم، ولهذا استمر قرونا طويلة.
فاليمن في ظل النظام الجمهوري العادل لابد من أن يجمع بين الأصالة والمعاصرة، وبين الحق والعدل، وبين الصدق والإيمان، وبين الشريعة والسياسة. فيجعل في نظامه مرجعية من أهل بيت النبوة يشرف على أداء سلطات الدولة، ويدفع ما يحيكه أعداء الإسلام من مؤامرات على بلد يمن الإيمان والحكمة؛ حتى يكون قد تحقق لهم ما يصبون إليه من عزة وكرامة.
ولقد كان لثورة ٢١ من سبتمبر الخالدة قصب السبق في إيجاد مرجعية بقيادة المسيرة القرآنية؛ فأظهرت هذه القيادة صدق توجهها في دفاعها عن شعب فلسطين، ورفعها راية الجهاد، وكبحها لجموح الظالمين. كما أظهرت المرجعية في نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران صدق توجهها وعدم انصياعها للصهيونية اليهودية ورفعها لراية الجهاد. وهذا ما ينبغي أن يتوجه إليه العالم الإسلامي إن أراد المحافظة على إسلامه وعقيدته ووحدته: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ).