المؤشرات تؤكد تراجع واشنطن وفرض بكين لقواعد السباق التقني:الذكاء الاصطناعي.. ميدان الحرب التكنولوجية الباردة

 

يتسارع السباق العالمي للهيمنة على سوق الذكاء الاصطناعي بين الصين والولايات المتحدة، في مشهد بات يشبه «حربًا تكنولوجية باردة». بينما تواصل الشركات الأمريكية تطوير نماذج ذكاء اصطناعي مغلقة ومدفوعة، مثل ChatGPT، تستثمر الصين بثقلها في النماذج مفتوحة المصدر ذات الوصول المجاني، مثل DeepSeek.

تركّز الشركات الصينية على الكفاءة وتخفيض التكلفة، مما يجعل تقنياتها أكثر جاذبية للدول النامية التي تسعى لتقليل اعتمادها على الحلول الغربية المقيدة. ومن خلال استراتيجية متكاملة تشمل الحوسبة السحابية، والبنى التحتية، ونماذج لغوية ضخمة، تسعى الصين لتثبيت وجودها في الأسواق الناشئة.

بحسب تقرير مركز ويلسون الأميركي، فإن اعتماد بنوك عالمية مثل HSBC وStandard Chartered وشركات كبرى مثل أرامكو على نماذج صينية يعكس توسع بكين المدروس. ووفق ما أوردته صحيفة وول ستريت جورنال، قامت أرامكو بتركيب نظام DeepSeek في مركز بياناتها الرئيسي، في تحول نوعي لصالح الصين.

مايكروسوفت تحذر والكونغرس يتحرك

براد سميث، رئيس مايكروسوفت، صرّح أمام مجلس الشيوخ بأن “السباق سيُحسم لمصلحة من تعتمد تقنيته على نطاق أوسع عالميًا”، مؤكدًا أن الصين تتقدم بخطى ثابتة. وأشار مشرعون أمريكيون إلى تقليص الفجوة بين البلدين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى بضعة أشهر فقط، ما دفعهم إلى التحذير من ضياع الريادة.

في المقابل، بدأت الولايات المتحدة باتخاذ خطوات دبلوماسية وتسويقية لتعزيز حضورها، لكنها تواجه تحديات داخلية، منها البطء في بناء مراكز البيانات بسبب المعوقات البيئية، وارتفاع تكلفة الطاقة، مقارنة بسرعة التنفيذ في الصين.

بنية مفتوحة ونفوذ رقمي

الصين تتبع استراتيجية القوة الناعمة التقنية، من خلال منح الدول الأخرى نماذج ذكاء اصطناعي مفتوحة المصدر دون قيود، مدعومة بموارد الدولة وخدماتها السحابية، مثل علي بابا كلاود وهواوي كلاود. غير أن تلك الخدمات تخضع لرقابة مشددة من قبل الحكومة الصينية، ما يثير تساؤلات بشأن خصوصية البيانات.

لكن هذا النفوذ الرقمي يُتيح لبكين بناء خريطة بيانات ضخمة من دول متفرقة، تُستخدم لتطوير نماذج ذكاء اصطناعي مخصصة لكل دولة، مما يمنح الصين تفوقًا طويل الأمد، خاصة في الجنوب العالمي الذي لا يزال يعاني من ضعف في البنية التحتية الرقمية الغربية.

بين التقدم العلمي وتوظيف الذكاء الاصطناعي عسكريًا

الصين لم تكتفِ بالنماذج التجارية، بل بدأت بالفعل باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، إذ طوّرت منصة DeepSeek للمساعدة في تصميم الطائرات الحربية، بحسب وانغ يونغ تشينغ، كبير مصممي معهد شنيانغ للطائرات.

كما كشفت أوراق بحثية في دوريات عسكرية أن جيش التحرير الصيني، على غرار نظيره الأمريكي، يدرس استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز القيادة والسيطرة، مما ينذر بتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى سلاح استراتيجي.

اقتصاد الذكاء الاصطناعي: من يربح السوق؟

من المتوقع أن يصل حجم سوق الروبوتات الشبيهة بالبشر إلى 5 تريليونات دولار بحلول 2050، مع استحواذ الصين على 30 % من السوق. ويُقدّر أن الذكاء الاصطناعي سيضيف بين 0.2 و0.3 نقطة مئوية للنمو السنوي في الصين خلال السنوات القليلة المقبلة.

ورغم أن أمريكا لا تزال تتصدر في الابتكار، إلا أن التحديات التنظيمية، والتباطؤ في إنشاء مراكز بيانات ضخمة، وتضييق شروط الهجرة والتعليم أمام الصينيين، يهدد قدرة وادي السيليكون على استقطاب الكفاءات.

من يضع قواعد اللعبة؟

بحسب مجلة The Diplomat، لم يعد التنافس مقتصرًا على الابتكار، بل انتقل إلى معركة لوضع “المعايير الرقمية العالمية”. فالدول، خاصة في أفريقيا وآسيا، باتت تُرغم على الاختيار بين النظامين الصيني أو الأمريكي، ما قد يحوّل التحالفات التقنية إلى تحالفات جيوسياسية شبيهة بالتحالفات الدفاعية.

الصين تعمل على بناء منظومة ذكاء اصطناعي ذاتية، مكتفية داخليًا، بينما تواجه أمريكا خطر تسريب رؤوس أموالها إلى خصومها من خلال استثمارات غير مباشرة في شركات صينية، بحسب الكونغرس.

لحظة سبوتنيك الجديدة

إطلاق الصين لنموذج DeepSeek، بميزانية منخفضة وأداء متقدم، فاجأ الأوساط الأمريكية. واعتُبرت هذه اللحظة بمثابة “سبوتنيك الذكاء الاصطناعي”، في إشارة إلى ذهول الغرب بعد إطلاق أول قمر صناعي سوفييتي عام 1957م.

في النهاية، فإن مَن يحسم السباق لن يكون فقط من يطور نماذج أقوى، بل من يفرض المعايير، ويجذب المستخدمين، ويهيمن على البنية التحتية. الصين وأمريكا الآن في مرحلة إعادة رسم مستقبل التقنية، ويبدو أن العالم مقبل على حقبة من التوتر التكنولوجي المشوب بالريبة والمنافسة الصامتة.

قد يعجبك ايضا