■ كانت صنعاء من أهم المدن الحدائقية التاريخية في العالم لكثرة المساحات الخضراء على أراضيها
فقدت صنعاء القديمة العديد من مقومات حضارها وجمالها بفعل عدم الاهتمام بهذه المدينة التاريخية الهامة أو بمعنى أصح الإهمال المستمر الذي انتشرت ملامحه وآثاره في الكثير من جزئيات ومكونات صنعاء القديمة ولعل أبرز المظاهر الجمالية التي كانت تشكل الرئة والمتنفس للمدينة وسكانها البساتين والمقاشم بما تحتويه من أشجار التوت والبرقوق وبعض الفواكه والورود جماليات فاتنة بالإضافة إلى الخضروات التي كانت تزرع بجميع أنواعها في المقاشم تزود المدينة وسكانها بما يحتاجونه من هذه الخضروات ولكن بحسب المعنيين والمختصين فقد كانت المساحات والفراغات من بساتين ومقاشم ومساحات بيضاء تشكل ما يقارب ثلثي مساحة المدينة.
إلا أن الزحف العمراني المستمر والمتواصل منذ سنوات طويلة مضت قد ساهمت في تقليص المساحات والفراغات وأصبح العكس هو الصحيح فلم تعد تلك المساحات تصل إلى الثلث, ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل باتت معظم بساتين ومقاشم صنعاء القديمة متصحرة وجرداء تنتشر فيها الأوساخ ويتطاير فيها الغبار ليخنق المنازل التاريخية ومن يسكنها بعد أن كانت واحات خضراء تغازل تلك المنازل وبنسمات من الهواء العليل الذي يحتضن المدينة بكاملها بحنان وشفاء للصدور.
يرجع الباحث التاريخي عبدالرحمن الحداد كلمة المقشامة إلى أنها من أصل حميري تعني الخضروات, الثورة تناقش موضوع المقاشم والبساتين في صنعاء القديمة وكيف وصلت إلى هذه الحالة من التدهور ومن المسؤول عن ذلك وفي ثنايا الأسطر ستبرز الكثير من الخبايا والمشاكل التي واجهتها هذه المتنفسات الفاصلة في صنعاء القديمة حيث لم يقتصر الأمر على التصحر والإهمال بل وصل الحد إلى السطو على مساحاتها والبناء على أجزاء من أراضيها.
دورة حياتية
بل إن هناك مقاشم تعرضت للسطو والبسط عليها بشكل كامل تقول الأخت أمة الرزاق جحاف وكيلة الهيئة العامة للمحافظة على المدن التاريخية: المساجد في صنعاء القديمة يبلغ عددها 46 مسجدا واعتقد أنه لكل مسجد مقشامة لأنها كانت كلها عبارة عن دورة مترابطة مع بعضها البعض بداية من المسجد والمرنع والبئر وانتهاء بالمقشامة دورة متكاملة والمقشامة جاءت لغرض الاستفادة من المياه وعدم إهدارها.
وتعتبر المقاشم والبساتين في صنعاء القديمة الرئة التي تتنفس منها المدينة هذه المدينة التي تقع على ارتفاع لا يسمح لها بتوفر مادة الأوكسجين بالشكل المطلوب وبالتالي عملت هذه المقاشم والبساتين على توفير هذا الأوكسجين حيث كانت هذه البساتين والمقاشم مساحتها تفوق مساحة البناء ولكن للأسف الشديد باتت هذه المتنفسات الآن نسبتها أقل من المساحة العمرانية حيث زحف البناء على أراضي تلك المقاشم التي كانت أيضا تزود أهالي صنعاء بكافة احتياجاتهم من الخضروات وكانت تحوي أيضا الزهور وبعض الفواكه ونباتات الزينة ولكن باتت معظم تلك المقاشم والبساتين الآن خالية تماما من كل مظاهر الجمال والاخضرار تسكنها الأتربة والغبار وبعض المخلفات التي باتت تضر الناس والبيئة نتيجة الإهمال الكبير والجريمة الأبشع أنهم عندما قاموا برصف المدينة حولوا تصريف مياه الوضوء إلى المجاري وحرموا المقاشم من تلك المياه وبالتالي أخلوا بالدورة الحياتية التي توارثها الآباء عن الأجداد واضروا بالمدينة وبساتينها صحيح أنهم عملوا مشروع المياه إلى المقاشم ولكن إذا كان الأهالي يشكون من شحة المياه فكيف بالمقاشم.
مؤامرة على المقاشم
وأشارت حجاف إلى أن هناك مؤامرة على المقاشم بهدف الاستيلاء والبسط عليها والبناء فيها من قبل المتنفذين وقد حصل هذا بالفعل لعل مقشامة الجامع الكبير خير شاهد على هذا السطو فقد تم السطو على أجزاء كبيرة من مساحتها من قبل بعض الأسر المحيطة بها.
وأضافت كان الصندوق الاجتماعي قد تبنى مشروعاٍ لترميم وإعادة تأهيل مقاشم صنعاء القديمة إلا أن هذا المشروع توقف وتم عرقلته من قبل بعض أصحاب المصالح ممن هم نافذون ولم يتم إكمال ذلك المشروع الذي كان بحق سيكون مشروعاٍ رائداٍ سيعيد الحياة لكل مقاشم وبساتين صنعاء القديمة التي أصبحت معظمها جرداء بل ولم تسلم الكثير منها من الاعتداء والاقتطاع من أراضيها بستان العمري كان الأكثر اخضرارا وجمالا والآن جزء صغير منه مزروع والباقي متصحر رغم وجود بئر ماء خاص به ومقشامة شكر تم السطو على أجزاء من أراضيها وتم هدم السور الخاص بها ولم يبق سوى جزء منه في الطرق الداخلي, كذلك بستان الهبل ومقشامة العلمي والحميدي وغيرها تتعرض للاعتداءات والسطو والأوقاف تقف متفرجة من كل ذلك مع أن هذه المقاشم تعد تحت مسؤولياتها حتى نحن في الهيئة وأمانة العاصمة كذلك لم نستطع عمل شيء ووقف هذا العبث لأن من يقومون به هم أناس لهم نفوذ داخل الدولة.
كيف ظهرت المقاشم بصنعاء القديمة¿¿
وإذا كانت الجهات المعنية جميعها لم تستطع أن تعمل شيئاٍ لهذه المقاشم فأين سكان هذه المدينة الذين يفترض بهم الحفاظ على هذه المساحات والدعوة إلى إحيائها كونها متنفسات خاصة بهم.
والتقينا أيضا بأحد المهندسين المخضرمين في مجال الحفاظ على المدن التاريخية وعمل لسنوات طوال في مدينة صنعاء القديمة المهندس جميل شمسان الذي يعمل حاليا رئيسا للمكتب الفني بوزارة الثقافة والذي حدثنا الكثير عن المقاشم وأهميتها وفوائدها وأوضاعها التي آلت إليها.. حيث قال:
كانت مدينة صنعاء القديمة تعد من المدن الحدائقية التاريخية في العالم الحديث فقد جاء العالم الحديث لينشئ المدن الحدائقية ولكن صنعاء سبقتهم بمئات السنين فقد كانت هذه المدينة وحتى فترة السبعينيات تزخر بالاخضرار حيث كانت المساحات والبساتين الخضراء تشكل ما نسبته 70% من مساحتها بينما اليوم وللأسف الشديد باتت تلك المساحة والبساتين تشكل ما نسبته 30% فقط وقد أوجد سكان صنعاء القدماء هذه المقاشم والبساتين لجاجتهم الشديدة إليها وحول هذا هناك قصة حيث قيل أن الكثير من الناس قديماٍ أصيبوا بمرض ممن هم يرتادون المساجد وكان السبب مياه البرك واتفقوا جميعهم على ضرورة أن تكون مياه الوضوء جارية في جميع مساجد صنعاء خاصة أن صنعاء كان يجري فيها غيلين الغيل البرمكي والغيل الأسود وكلاهما كانا ينبعان من أعالي جبل نقم في اتجاهين مختلفين أوصلوا من خلالهما سواقي فرعية إلى المساجد وبما أن المياه أصبحت جارية إلى المساجد الأمر الذي حتم عليهم البحث عن أنسب الطرق لتصريفها واستغلالها بصورة أمثل وجاءت من هنا فكرة المعاشم والبساتين وخصصوا لكل مسجد مساحة واسعة من الأرض لاستقبال تلك المياه الجارية واستغلالها في زراعة أشياء مفيدة.
تقسيم المقاسم بين الورثة
وأضاف شمسان وأوكلت هذه المقاشم لأناس لرعايتها وزراعتها والاعتناء بها وكان معظم سكان صنعاء منازلهم تطل على تلك المقاشم التي احتوت على الخضروات وبعض أشجار الفواكه وكذا الزهور والورود وكانت فعلا متنافسا حيا وجميلا لكل السكان على مر العصور ولكن للأسف الشديد لم تعد كذلك الآن بل على العكس فربما أصبحت ذات تأثير سلبي نوعا ما من خلال الأتربة التي تداعب بها المنازل المحيطة بها.
وأجع شمسان اسباب هذا التصحر والتقلص في مساحات البساتين والمقاشم إلى ازدياد عدد سكان صنعاء القديمة حيث وصل عددهم خلال فترة السبعينيات إلى 45 ألف نسمة بينما تجاوز عددهم الآن 90 ألف نسمة هذه الزيادة كانت سببا في زيادة البناء في هذه المساحات ومن الأسباب أيضا يقول شمسان حوض صنعاء بات شحيحاٍ جدا بالمياه والأدهى من ذلك إلغاء المتخذات القديمة واستبدالها بحمامات حديثة وتم تصريف مياه الوضوء إلى شبكة الجاري وحرمان المقاشم منها والشيء السلبي أنه تم توارث المقاشم بمعنى تم تقسيم المقاشم بين ورثة المستأجرين والأوقاف وهو ما يفسر ربما وجود الكثير من المقاشم تزرع أجزاء منها والبقية تظل متصحرة حيث يحرص أحد الورثة على الزراعة والآخرين غير مهتمين والأمر الآخر الذي أفرزه التوريث هو التوسع في البناء من قبل الورثة ولهذا تجد البناء قد استحوذ على مساحة كبيرة وهكذا دون ضوابط أو رادع من الجهات المختصة ولفت شمسان إلى أن أول وأقدم مخالفة ارتكبت في حق صنعاء القديمة كان البناء في إحدى البساتين وهو بستان شوشة والذي يبعث على المرارة والحزن الشديد أن من قامت بهذا العمل الشنيع هي الدولة والتي قامت ببناء مدرسة أسمنتية على هذا البستان وهي مدرسة نشوان الآن ولم تتوقف أجهزة الدولة عند هذا الحد بل واصلت المشوار وها هو الأمن القومي يأخذ مقشامة بأكملها ويستحوذ عليها وهي مقشامة صلاح الدين.
وعن عدد المقاشم والبساتين المتبقية في صنعاء القديمة أكد شمسان أن عددها يصل إلى 38 مقشامة وبستاناٍ.
غبار يخترق النوافذ
كيف ينظر الأهالي لهذه الحالة من الإهمال الذي تعانيه المقاشم ومدى انعكاساته عليهم يقول أحد الساكنين في المنازل المطلة على إحدى المقاشم مقشامة الفليحي أصبح المنظر كئيباٍ جدا والغبار مؤذُ إلى درجة كبيرة جدا وبدلا من فتح النوافذ لدخول الهواء العليل كما كان سباقا أصبحت النوافذ مغلقة في معظم الأحيان خوفا من الأتربة والغبار أن يخترقها إلى المنازل.
وطالب الجهات المعنية بسرعة وضع الحلول وإعادة الاعتبار لهذه المقاشم والبساتين والعمل السريع على زراعتها وحمايتها حتى تعود إلى سابق عهدها وتعود إلى الحياة لكافة المنازل المحيطة بها والتي فقدت جانبا جميلا ومشرقا لم يشعر به السكان إلا عندما فقدوه..
وحول عدم زراعة المقاشم من قبل القائمين عليها أوضح سعدون العلافة أحد القائمين على زراعة مقشامة الفليحي أن السبب الرئيسي وراء ذلك هو عدم توفر المياه فمن أين نأتي بالمياه والسكان ومنازلهم باتت تعاني شحة المياه وندرتها ونحن نأتي لنبحث عن مياه للمقاشم.
ومع أن جامع الفليحي الذي تتبعه المقاشمة يحتوي على بئر غنية بالمياه لا تنعدم طوال العام إلا أننا لم نعد ندري ما هي المشكلة بالضبط.
وهنا يضيف الأخ سعدون الحالي أن المقاشم بات الآن تستخدم في الكثير منها كمواقع لمخيمات الأعراس وأماكن لتجمع المخلفات والنفايات التي باتت تزعج الكثير من الأهالي المحيطة بمنازلهم بالمقاشم.
وهنا نتساءل أين دور الجهات المعنية ولماذا لا يتم إعادة الأمور إلى ما كانت عليه في السابق من خلال تصريف مياه الوضوء إلى المقاشم بدلا من المجاري ما دامت الدولة وأجهزتها المعنية عاجزة عن توفير المياه لها بل وتوفير المياه لسكان المدينة الذين باتوا يعيشون أوضاعا صعبة جدا حيث تراهم يتزاحمون رجالا ونساء صغارا وكباراٍ أمام خزانات المياه في الشوارع أو جوار الجوامع من أجل الحصول على المياه لمنازلهم وكأننا نعيش في القرن السادس قبل الميلاد وليس في القرن الواحد والعشرين بعد الميلاد والكل يعرف خصوصية هذه المدينة التي تضبق شوارعها وأزقتها ولا تسمح بدخول وايتات المياه إليها فكيف يعمل السكان في هذا الوضع المؤلم.