أيتام وفقراء أطاحوا بأعتى أنظمة الاستبداد والطغيان في تاريخ اليمن



ظلت مدرسة الأيتام التي كانت واحدة من مرافق التعليم القليلة والنادرة في عهد الأئمة عنواناٍ بارزاٍ في مسيرة النضال الوطني ضد حكم الاستبداد والكهنوت الإمامي.
هذه المدرسة التي كانت مقصداٍ للأيتام والفقراء الذين أرادوا الاستئناس بنور العلم في زمن استحكم فيه ظلام الجهل أخرجت أعلاماٍ سطروا ملاحم وبطولات في معركة التحرر التي انتهت بالإطاحة بواحد من أعتى أنظمة الاستبداد في تاريخ اليمن ومن هؤلاء على سبيل المثال علي عبدالمغني وأحمد الثلايا وعبدالله السلال وأحمد حسين المروني وغيرهم من رموز النضال الوطني ولكل واحد منهم قصته الجديرة بالتأمل والتي بدأت من مدرسة الأيتام .
لم يكن أحداٍ يعلم أن مدرسة الأيتام التي كان يسكنها أيتام وفقراء سوف تكون أحد أسباب نهاية واحد من أنظمة الاستبداد في تاريخ اليمن نظامظلم وأرهب شعباٍ بأكمله رضي بالتخمة لنفسه وأجحف في حق الأخرين لقد أصبحت مدرسة الأيتام منبعاٍ لتخريج ضباط أحرار حاملين على عاتقهم مسؤئولية تحرير وطنهم مما كان فيه من الرجعية والكبوت فجعلوا أرواحهم فتيلاٍ لانطلاقة شرارة ثورات حررت الوطن من جبروت هذا النظام الاستبدادي الذي جثم على صدور اليمنيين لعشرات السنين .
تأسست مدرسة الأيتام بصنعاء كما يقول الباحث عبد الحميد البكري صاحب دراسة « التعليم في اليمن 1918-1962م « عام 1925م وكانت تسمى آنذاك « بمكتب الأيتام « و يرجع تسميتها بهذا الاسم إلى سببين أنها شبيهة بالمدارس الأولية التي كانت حالة متطورة من المعلامة ذات الثلاثة صفوف والتي كان يطلق عليها «مكاتب « أما السبب الثاني فيعود إلى أن المدرسة كانت عبارة عن امتداد لمكتب الأيتام الذي أنشأه العثمانيون قبل خروجهم من اليمن وبعد استلام الإمام يحيى السلطة أعاد افتتاحه بعد توقفه عدة سنوات إلا أن اسمها ظل كما هو حتى بداية الأربعينيات يقع مبنى مدرسة الأيتام في حي قصر السلاح المجاور لمسجد قبة البكيرية وكان يعتبر المبنى مقر لرئاسة الاستئناف خلال حكم العثمانيين يتكون من طابقين طابق أرضي خصص للدراسة فيه يشمل (6 -7) غرف أما الطابق الثاني مخصص للإداريين ولغرف النوم وتم إضافة مبنى إليها عام 1939م وفي عام 1980متم نقل مقر المدرسة إلى شارع تعز.
بلغ عدد طلاب المدرسة عند افتتاحها 700طالب منهم 500 ليليون و200 م وكانوا من الأيتام والأطفال المعوزين الذين ليس لهم مصدر رزق ولا يستطيعون الالتحاق بالمدارس .
نظام الدراسة
مر نظام التعليم في مدرسة الأيتام بعدة مراحل متطورة ففي البداية كانت المدرسة عبارة عن ثلاثة فصول فقط لمدة ثلاث سنوات ومناهجها هي نفس مناهج المدارس الأولية تعمل على تمكين طلابها من القدرة على القراءة والكتابة ودراسة الإملاء والصرف والنحو والقرآن وفي الثلاثينات تم إنشاء ثلاثة فصول إضافية وأصبحت سنوات الدراسة فيها ست سنوات وتطورت مناهجها لتشمل المواد التعليمية الحديثة مثل الجغرافية والتاريخ والهندسة والرياضيات ويصفها آن ذاك سيف الدين آل يحي والشامي في نهاية الثلاثينيات « بأنها كانت أرقى المؤسسات بعد المدرسة العلمية « اما في الأربعينات تطور نظام الدراسة فيها خصوصاٍ بعد مجيء عدد من المدرسين المصريين والسوريين والفلسطينيين وتوسعت المناهج وأضيفت إليها مادتي اللغة الفرنسية والرسم وكان عدد المدرسين فيها 15 مدرساٍ وتطورت إدارتها التي كان على رأسها الأمير عنبر كان يجيد اللغة التركية وكان لديهم كتاب ومراقبين لتأكد من حضور الطلاب وسلوكياتهم .
يقول خالد العماري رئيس التوثيق التربوي بوزارة التربية والتعليم أن مدرسة الأيتام في تلك الفترة كانت تحتوي على عدة أنشطة مختلفة تقدم للطلاب الملتحقين بالمدرسة خصوصا خلال فترة الاستاذ عبدالله الذماري مدير المدرسة الذي ظل مديراٍ لها لأكثر من ثلاثين سنة الرجل الذي كان يقضي طوال وقته مع طلابه الأيتام و يخصص جل وقته لهم حيث كان يحجز للطلاب حمام الميدان يوم الجمعة ويقوم بتغسيلهم وتغسل ثيابهم فقد كان أباٍ روحياٍ للأيتام بكل ما تحمله الكلمة من معنى فطلابه يتذكرونه إلى اليوم بأخلاقه الرفيعة والدافئة التي كان يحملها لهم ومن ثم يقوم بأخذهم لزيارة بعض المعالم التاريخية والأثرية للعاصمة صنعاء .
رموز النضال الوطني
التحق الكثير من طلاب مدرسة الأيتام بالمدرسة الحربية وعملوا كتبة وضباطاٍ في الجيش فأول دفعة من مدرسة الأيتام 14 طالباٍ نقل منهم 12 طالباٍ إلى المدرسة الحربية ولإعداد خريجي هذه المدرسة لتحمل مسؤئولياتهم في الوظائف الإدارية تم إلحاقهم بالصف التحضيري المخصص للتدريب وكان معظمهم يلتحقون بالمدرسة المتوسطة أو المدرسة العلمية أو معهد المعلمين ومنهم من يرسل للدراسة إلى الخارج حيث كانت أول بعثة أرسلت للعراق عام1935م من طلاب مدرسة الأيتام المكونة من عشرة طلاب خمسة منهم يلتحقون بالمدرسة العسكرية والخمسة الآخرين يلتحقون بالمدرسة اللاسلكية منهم عبدالله السلال يرأس البعثة محيي الدين العنسي .
لقد امتلك الكثير من خريجي مدرسة الأيتام أثر فعالآ في صناعة تاريخ اليمن المعاصر وخاصة في الثورة الدستورية عام 1948م وانقلاب 1955م وثورة 26 سبتمبر 1962م ومن أبرز خريجيها أحمد الحورش وعبد السلام العنسي اللذان استشهدا في ثورة عام 1948م وأحمد يحيى الثلايا قائد الانقلاب عام 1955م وأحمد الدفعي أحد الشهداء في انقلاب عام 1955م وعبدالله السلال أول رئيس بعد ثورة 26 سبتمبر 1962م وأحمد حسين المروني الذي أصبح وزيرآ للمعرفة بعد الثورة ومعظم ضباط ثورة 1962م من خريجي المدرسة أمثال : علي عبد المغني الذي تم ذكره سلفاٍ وعبد الرحمن المحبشي ومحمد الشراعي ومحمد مطهر زيد وغيرهم الكثير ومعظم وزراء الحكومة اليمنية بعد الثورة من خريجي مدرسة الأيتام ولقد استمرت هذه المدرسة بعد انتهاء النظام الملكي وقيام النظام الجمهوري ومازالت تعمل إلى اليوم وتسمى الآن « دار الأيتام « .
الشهيد علي عبد المغني
في إحدى قرى مدينة إب وتحديدآ بيت الرداعي مديرية السدة عام 1937م ولد البطل الشهيد علي محمد حسين عبدالمغني توفي والده وهو في الرابعة من عمره وتزوجت أمه من الحاج أحمد علي ضيف الله الذي شمله برعايته ودعمه ومساندته انتقلت أسرته إلى مديرية النادرة مكان إقامة زوج الأم التحق»علي « بكتاب « نيعان « وهناك ختم القرآن الكريم وهو ابن السابعة وفي التاسعة من عمره التحق بمدرسة الأيتام بصنعاء .
أكمل دراسته بمدرسة الأيتام بتفوق وجدارة وبذلك انتقل ليكمل تعليمه في المدرسة المتوسطة درس فيها ثلاث سنوات من التفوق والنجاح ومن ثم التحق بالمدرسة الثانوية لمدة أربع سنوات ومما يحكى عنه في مدرسته الثانوية أنه تولى إدارة المدرسة في السنة الثالثة بعد وفاة مدير المدرسة وموافقة جميع الطلاب والمدرسين على قدرته في تولي هذا المنصب .
وفي عام 1957م فتحت الكلية الحربية أبواب القبول لأول مرة ليتم اختيار خريجي ومدارس العلمية والثانوية والمتوسطة وكان من بين المتقدمين الطالب محمد مطهر زيد والتي عرفت فيما بعد بدفعة محمد مطهر أما علي عبد المغني لم يقدم للتسجيل حيث كان يأمل بحصوله على منحة للدراسة بالخارج والتحق بها العام التالي 1958م وسميت الدفعة باسمه وتخرج منها متفوقاٍ بالمرتبة الأولى .
في العام 1961م مرة أخرى يرجع الشهيد إلى القرية ليطمئن والدته عن حاله ويتفقد أهله وأخبرها بأنه مقدم مع زملائه على أمر كبير وأوصاها أن تدعوا له ثم توجه إلى تعز ومن ثم إلى الحديدة للاتصال بخلية الضباط الأحرار ثم انتقل إلى عدن ومن ثم عاد إلى صنعاء .
وفي يونيو عام 1962م التقى الشهيد بجمال عبدالناصر على متن الباخرة المصرية في البحر الأحمر وهناك تم الاتفاق على دعم ثورة اليمن السبتمبرية .
ليلة تفجير الثورة اجتمع مع مشايخ اليمن الذين وصلوا صنعاء لمبايعة الإمام وأقنعهم بالمشاركة في الثورة إلى جانب الضباط وفي الساعة الحادية عشرة من مساء الخامس والعشرين من سبتمبر 1962 م توجهت قوات الجيش التي أعدها تنظيم الضباط الأحرار إلى “دار البشائر” الذي كا مقراٍ للإمام البدر ومأ أن وصلوها بالمدرعات حتى وجهوا نداءٍ بمكبرات الصوت يدعون الإمام البدر للاستسلام مع أفراد الحرس الملكي لكنهم أطلقوا النار بكثافة مما دفع بالضباط الأحرار لقصف دار البشائر.
وفي صباح يوم السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م ارتقى محمد الفسيل منصة إذاعة صنعاء ليقرأ أول بيان أعلن فيه قيام الثورة وسقوط عرش الإمامة إلى الأبد. وبعد ذلك عين علي عبد المغني عضوٍا فيما عرف بـ”مجلس القيادة” إلى جانب المشير عبدالله السلال
وعبد الله جزيلان وعبد السلام صبرة وآخرين.
بعد أيام من قيام الثورة والجمهورية كلف بقيادة حملة عسكرية إلى منطقة “حريب” في مأرب لمواجهة الحشود الملكية التي بدأت تستعد لإعلان الحسن بن يحيى حميد الدين إمامٍا بمساعدة خارجية وقد استشهد علي عبد المغني في هذه المعركة وكان ذلك في أكتوبر 62 م وبرحيله خسر اليمن واحدا من المناضلين والأحرار العظام الذين وهبوا أنفسهم منذ اليوم الأول لمجابهة الظلم والطغيان والانتصار للحرية.

قد يعجبك ايضا