يدفع اليمن ثمن مواقفه، إنما لا يتصور ترامب أن بمقدوره إثناء الشعب عن مواقفه وهو المنطلق من ثوابت دينية وإنسانية وأخلاقية، بالأمس تشنج ترامب وتوعد بحرب عنيفة على اليمن ثم ذهب ليستهدف حياً سكنياً.
والمثير للسخرية أنه تحدث عن أن أهداف الحملة، هي إيقاف العمليات اليمنية على الملاحة الإسرائيلية ليأتي الفعل بعيدا عن أي صفات عسكرية، ولم يكن قصف الأحياء السكنية يوما دليلا على ضرب القدرات العسكرية.
في كل الأحوال، يؤكد هذا الطيش الأمريكي على صدقية تأثير الوعيد اليمني، عن سابق تجربة أثرت خلالها العمليات البحرية اليمنية على استقرار العدو فحاصرته بحريا وأربكت حياة مستوطنيه وفتحت ملاجئه للملايين منهم، خلال معركة (الفتح الموعود والجهاد المقدس) الإسنادية.
ودائما كانت الآمال العربية أن يشعر العدو بالوجع نتيجة تنكيله المستمر بالأمة ومصادرته حقوقها، إنما طوال عقود، ظلّت التناولات الأدبية وحسب- على مختلف الصنوف الإبداعية- هي المتنفس الوحيد للنفوس الحرة، وغالبا ما كانت هذه النفوس تجد القمع، رغم أن الأنظمة كانت تحاول إيهام الشعوب بأن همها القومي والعروبي هو ذات ما يعتمل في الشارع، فيما عقود الزمن ذاتها كشفت عن كثير من الزيف والنفاق وخطابات بروتوكولية مهذبة وكفى، ما أسفر عن واقع عربي متخلف وخاضع للهيمنة الأمريكية، حتى أن المنطقة العربية ظهرت كأخصب بيئة كان لواشنطن أن تسيطر عليها وتجني ثمار هذا الاستسلام.
ومنذ ما بعد الحرب العالمية الثانية سارت أمريكا على مخطط فرض الهيمنة على كل العالم واستطاعت جعل التقدم العلمي والعسكري والتفوق الاقتصادي أهم عوامل الهيمنة، ونوّعت في استخدامها بين الترهيب والترغيب، على أن إدراك كثير من الأمم بان هذه السطوة كانت في غالب الأحيان تتسبب بغرقهم في مشكلات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، تفتعلها الإدارة الأمريكية بقصد جني مصالح خاصة ولا شأن لهم بها، وكان ذلك بمثابة السبب الضاغط عليها لرفع هذا الضغط عن شعوبها، فبنت بعضها على ما بدأته سابقا واستحدثت بعضها آلية جديدة للسير نحو هذا الهدف، فالتأمت أوروبا في وحدة مستقلة وبرزت الصين، وورثت روسيا موقف الاتحاد السوفيتي، كما تلاحقت بعد ذلك دولا لم يعد لأمريكا أي سطوة عليها وإن كانت تتعرض حتى الآن لعقوبات أحادية بسبب موقفها الرافض لهيمنة البيت الأبيض.
وحدهم العرب كانوا يبتدعون المبررات كي تنتفي أي ظروف للخلاف أو حتى تسجيل موقف جريء أمام واشنطن والبقاء داخل السياج الذي صنعه الأمريكي كحدود لحركتها، لذلك لم تنهض، ولم يكن لها أي وزن يمكنها من الدفاع عن قضايا الأمة حتى صارت مسلوبة كليا من أي إرادة.
في الحال العربي، هناك ما يجعل من موقف التمرد على هذه الوصاية والهيمنة ممكنا وقويا وفاعلا، فالمنطقة تمثل مطمعا لكل القوى الاستعمارية لما تتمتع به من موقع هام وحيوي وما تختزنه من ثروات، فضلا عما تمثله من سوق تجارية مربحة، والتلويح فقط بالعمل على أي من هذه الخصائص سيكون له تأثيره الكبير على واشنطن، وبالتالي يمكن الركون إلى هذه العوامل في عملية صنع توازنات جديدة تُلجم الطيش الأمريكي عن اللعب بحاضر ومستقبل الأمة.
لا شك أن أمتنا العربية والإسلامية بحاجة اليوم- وأكثر من أي وقت مضى، مع هذه المخاطر المحدقة بها، ووفق المتغيرات التي عصفت بالمسلّمات التقليدية المرتبطة بالقدرات الأمريكية- لأن تكسر حدود الجرأة فتخرج عن إطار الكلام والكتابة، وأن تدرك عظمة أن التحرر من الهيمنة الأمريكية ومن حالة الانبهار بالغرب المنفلت من كل الضوابط، هو فقط ما سيمكنها من مواجهة مؤامرات الأعداء ورد شرورهم عنها، فالتحرر من الهيمنة الأمريكية هو ما جعل لليمن رسميا وشعبيا هذا الموقف الصادق والجاد في إسناده للشعب الفلسطيني.