* مع أنه انتقم لنفسه منه بقتله إلا أن الجرح الذي يحس به ليس ككل الجراح, والألم الذي يستعر بداخله ليس ككل الآلام.. بل هو لهيب مشتعل منصهر يطال الروح وخلايا الجسد معا.. كان صديقه الذي أحبه رفيق دربه والإنسان الوحيد من دون بقية البشر الذي وثق فيه وكانت له مكانة خاصة في قلبه في كيانه في كل نبضة من وجدانه كان قرينه وفي صباه وفي شبابه وفي كل ذكرى مفرحة ومحزنة مرت بحياته لم يفترق عنه يوما وحتى أيام الدراسة كانا سويا لكن كل ذلك نسف فجأة وبين ليلة وضحايا تلاشى بفعل ريح عاصفة غادر بل واندثر ولم يبق له أثر بحيث وصل الأمر إلى جريمة القتل الدموية المؤسفة وها هي الوقائع وتفاصيلها يحكيها المتهم كما وردت في اعترافه الذي أدلى به ضمن ملف القضية بالبحث الجنائي على لسانه:
معرفتي وعلاقتي به كانت منذ أيام الصغر فأنا وهو من منطقة واحدة وبيننا صلة قرابة من جهة أبي وأمه ومن بعيد بعض الشيء نشأت وإياه وترعرعنا سويا وكان زميل المدرسة أو الدراسة من الابتدائية وحتى نهاية المرحلة الثانوية خضنا الحياة وكذا الأحلام وأيام الأفراح والأتراح معا لم نفترق عن بعضنا يوما وإذا حدث فكان ذلك نادرا والنادر لا حكم له.. كان صديقي الوحيد المقرب لي وأكن له مكانة خاصة ومعزة فريدة في قلبي وأنا كذلك كنت بالنسبة له كل منا أحب الآخر كصديق وفي وثنائي ذهب عيار 24 قيراط نقي.. كنا بمثابة الشقيقين اللذين كأننا ولدنا من أم واحدة.. معظم الأيام كان هو يأتي عندي في منزل الأسرة وأنا أذهب عنده بمنزلهم نقضي مع بعضنا أوقات المقيل والسهر وأحياناٍ المبيت كأخوين, وبالأخص بعد أن كبرنا وصار كل منا شاباٍ بالغاٍ.
وهكذا استمر الحال بيننا حتى كان اقتراني وارتباطي بالزواج من إحدى بنات المنطقة, والتي كان اختيارها لي من قبل أمي وأبي, وكان اختيارهما هذا موفقاٍ للفتاة, وكانت حسب ما كنت أتمنى من حيث الكمال والجمال وحسن الخلق والتربية والمعدن الأصيل, كان استقراري أنا وزوجتي من يوم الزواج في منزل الأسرة عند أبي وأمي, وظللنا لديهما في المنزل مدة أكثر من سنة مرت الحياة الزوجية فيها هادئة وسمن على عسل, كما يقولون, وخلال هذه الفترة وبالذات أيام العرس وشهر العسل والشهر الذي تلاه انقطعت اللقاءات بيني وصديقي, كما انقطعت عن العالم الخارجي تماماٍ, وكنت غارقاٍ ومشغولاٍ خلال الشهرين المذكورين مع عروستي, التي تمكنت من إبعادي عما خارج المنزل, وجعلتني أنسى حتى أقرب الأشياء إلى نفسي, وبعد ذلكما الشهرين صرت ألتقي صاحبي ولكن بشكل متباعد ومحدود, ثم عقب مرور السنة التي مكثت فيها مع زوجتي عند أبي وأمي حدث أن نشبت خلافات ومشادات بين زوجتي وأمي من جهة وبين زوجتي وإحدى أخواتي, وهي أختي الكبرى التي كانت قد تزوجت وتطلقت من رجلها وعادت لتعيش في منزل الأسرة, من جهة ثانية, وتكررت هذه المشادات والخلافات بين زوجتي وإياهما لأكثر من مرة بحيث أدت في النهاية إلى أن تركت الزوجة المنزل وذهبت غاضبة “حانقة” إلى بيت أبيها وأمها, ومكثت هناك ما يزيد عن شهرين ونصف الشهر, ذهبت أراجعها لكي تعود إلى المنزل أثناء هذه الفترة, وعن طريق أكثر من شخص “وساطة” أرسلهم أبي من أجل ذلك, ولكن والدها ووالدتها كانا يردان لمن يصل إليهما في كل مرة بأن ابنتهما لن تعود إلا بعد توفير بيت مستقل وبكامل أثاثه واحتياجاته لأنها لم تعد تحتمل العيش مع أمي وأختي في منزل واحد بسبب المشاكل التي نشبت بينهم وتكررت, وأصر والد زوجتي ومعه إخوانها على هذا الطلب وعدم التنازل عنه كشرط حتمي لإعادتها إلي, كما وضع والدها وإخوانها ومعهم الأم شرطاٍ آخر بمثابة الخيار الثاني, وذلك أنه في حال عدم الاستجابة لطلب توفير البيت المستقل فعلي أن أنساها وأطلقها نهائياٍ, فكان الخيار هذا الأخير لما سمعت عنه كدت أجن, وغير من حالتي النفسية كثيراٍ, وغدوت خلال المدة التي لبثت زوجتي “حانقة” في بيت أهلها بعيداٍ عني أخرج من المنزل وألتقي صديقي القرين ونمضي معاٍ أغلب أوقات النهار والليل وذهبت وهو أثناءها نشرب الخمرة ونتعاطاها بكثرة, وكنا قد تعلمنا شربها من قبل عن طريق بعض الشباب في المنطقة, إضافةٍ إلى تناول القات “التخزين” وتدخين السجائر, ثم وأمام ضغط شرط أهل زوجتي المتعلق بتوفير بيت مستقل “بمصالحة” لإرجاعها إلي وعدم الطلاق وإصرارهم عليه بلا تراجع اضطر والدي لتنفيذ الطلب باستئجار بيت بنفس المنطقة كحل مؤقت وتزويده باحتياجاته ليتم على إثر ذلك إعادة زوجتي إلي وانتقالي وإياها للسكن والعيش في البيت المستأجر مع ترك الحرية في اختيار تواصلي مع أبي وأمي وأختي من خلال زيارتي لهم بين الحين والآخر.
ومع انتقالي والزوجة في بيت مستقل أخذ صديقي يتردد علي في البيت وننفرد للمقيل أو للشرب, واستمر شأننا كذلك إلى أن جاء ذلك اليوم المشؤوم الذي صادف أن كان يوم الخميس, والوقت كان قبل الظهر بساعة, حيث اتصلت به – أي صديقي – لأسأل عنه, لأنني لم أره في المنطقة من الصباح, فرد علي عبر الهاتف أنه متواجد في المدينة منذ الصباح لشأن خاص مهم وسوف يعود من هناك بعد الظهر.. فقلت له: اليوم خميس ولا تنسى أن تحضر معاك المعلوم فأجاب: أنا عامل حسابي وهو في بالي ولن أنسى.. وكان لي من الشراب ثلاثة أيام تقريباٍ لم أتعاطه.. وقلت له خلال الاتصال: تعال إلى البيت.. سنجلس اليوم بالبيب.. فقال: عْلم وقد تأخر هو في العودة من المدينة إلى ما بعد الثانية والنصف قبل العصر وأنا خرجت قبلها من البيت لأمر طارئ وضروري قائلاٍ لزوجتي: أن صاحبي (فلان) سوف يأتي ليدق الباب ويسأل عني فتفتح له الباب وتدخله للجلوس بغرفة المجلس وتحضر له الماء وتقول له: أنني خرجت لغرض سريع ولن أتأخر.. وكانت زوجتي بحكم رؤيتها لتردده علي بالبيت لأكثر من مرة قبل هذا اليوم تعرفه.. ففعلت زوجتي كما قلت لها عند حضوره بينما أنا تأخرت في العودة حوالي ساعة بالمشوار الذي ذهبت إليه وهو جاء بعد خروجي من البيت بربع ساعة وتعاطى منه بعض الكمية وهو في الطريق قبل وصوله للبيت كما شرب جرعة أو جرعتين أو ثلاث بعد إدخاله لغرفة المجلس وانفراده بها فكان ذلك – حسب ما عرفته وتأكد لي بعد عودتي ووصولي للبيت – مما أثر عليه وغير من إدراكه وتمييزه وأثار لديه هيجان الرغبة ودفعة للخروج من غرفة المجلس وهو سكران إلى الصالة ورأى زوجتي كانت مارة بالصالة قاصدة الدخول للمطبخ أو خارجة من الحمام الذي كان مجاوراٍ للمطبخ فانقض عليها مهاجماٍ إياها بالاعتداء فجأة كالوحش المفترس وقام باغتصابها على أرض الصالة.. وقد حاولت هي مقاومته ودفعه عنها والصراخ والاستغاثة ولكنه لم يترك لها فرصة للإفلات منه قبل انقضاء غرضه منها وكان من النوع القوي والمفتول العضلات والجسم بحيث كانت بالنسبة له لقمة سهلة لينة في الوقت الذي صدمتها المباغتة وخذلتها المفاجأة والتي كانت غير متوقعة لها.. وأنا صادف أن وصلت أثناء ذلك وسمعت صوت صياحها واستغاثتها عند فتحي للباب ودخولي للداخل ثم شاهدت منظرها وهي مازالت ممددة على أرض الصالة وعارية من وسط صدرها للأسفل عقب انتهائه منها وكان واقفا بالقرب منها أو فوقها بحالته التي كانت لا تقل عنها.. وقد كشف لي المشهد ما حدث فلم استطع إمساك نفسي وثارت لدي حرارة الغيرة والحمية وارتفعت درجة غليان الدم في عروقي فاندفعت ثائرا نحو الشاب الذي وثقت فيه وكنت أعتقده صديقي واشتبكت معه في شد ولكم عنيفين, كما سارعت إلى إخراج جنبيتي التي كنت أرتديها في العسيب وهويت أطعنه بها طعنة وراء طعنة على غير وعي وكيفما اتفق, ولم أتركه حتى رأيته سقط بقامته على الأرض بالصالة وهو ساكن الحركة وينزف الدماء وقد فارق الحياة وصار جثة هامدة من ساعته.
حضر خلال ذلك بعض الجيران على إثر سماعهم الصياح والصراخ وقاموا بالإمساك بي في حين اتصل البعض منهم بشرطة المنطقة وأبلغوهم عن ذلك فجاء رجال الشرطة من المنطقة بعد البلاغ وتم تسليمي إليهم وإيصالي إلى مقر المنطقة.. وهكذا كانت نهاية الصداقة المخزية والمحرفة ونسأل الله السلامة لنا ولأبنائنا وشبابنا والهداية لكل ضال قبل فوات الأوان..¿