إرساء معالم التنمية الاقتصادية وفق منهج النبوة

النهج النبوي حارب الأنانية والرأسمالية التي يتغول فيها الأغنياء على حساب الفقراء

 

 

 

بالتزامن مع الحراك اليماني الإيماني الكبير والملفت في إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف لهذا العام ، يجدر بنا كمعنيين ومهتمين بالشأن الاقتصادي أن نتناول جانباً من حرص نبي الرحمة على بناء اقتصاد إسلامي يحفظ حقوق الناس وكرامتهم وحقهم في استثمار إمكانياتهم وقدراتهم في تنمية حياتهم المعيشية بالشكل الأمثل، حيث عمل النبي صلوات الله عليه وآله على تنمية القيم الأخلاقية العالية التي أثرت في إرساء معالم التنمية الاقتصادية وعالج النبي صلى الله عليه وآله ظاهرة الفقر والبطالة من خلال التشجيع على السعي في الأرض، وطلب الرزق، وتحصيل فرص العمل المتنوعة، فخرج من المجتمع حينذاك التاجر، والصانع، والمزارع، وكان يشجع كل القطاعات الفاعلة، كما حارب النبي ظواهر الفساد المالي كالغش في المعاملات الاقتصادية، وتعاطي الرشوة، أو السقوط في فخ المعاملات الربوية التي حذر منها القرآن الكريم لما لها من انعكاسات خطيرة على البنية الاقتصادية للدول، وشجع رسول الله الجانب الزراعي لأهميته في تحقيق الاكتفاء الغذائي، ناهيك عن إرسائه معالم التكافل الاجتماعي لمعالجة مشكلة الفقر والحاجة وغير ذلك من المعضلات المتصلة بحياة الإنسان الاقتصادية والمعيشية التي اهتم بها رسول الرحمة المهداة صلوات الله عليه وآله .. إلى التفاصيل:

الثورة / أحمد المالكي

يؤكد العديد من المفكرين والكتاب والمهتمين بالاقتصاد الإسلامي بأن الأمة ملزمة بالرجوع إلى الهدي النبوي ومعرفة الأصول العلمية التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لحل المعضلات الاقتصادية التي واجهته طول حياته، خاصَّة مع استفحال مظاهر التخلف الاقتصادي في أكثر بلدان العالم الإسلامي، حيث أن رسول الله يُعطي لنا المعالم والهدايات التي تُفكك هذا التخلف، بناءً على نظام اقتصادي متكامل.
كما يجب النظر وفق المفكرين والباحثين إلى سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الاقتصادي كفردٍ من جهةٍ، وكراعٍ للأمة من جهةٍ أخرى، وهذا ضمن المنهج العلمي والعملي الذي جعل هذا السلوك يُحقق أهدافه التي ظهرت جلية في زمن النبوة وبعدها، وما صاحب ذلك من إصلاحاتٍ اقتصادية تُظهر حتمية مراجعة السيرة النبوية لاستخلاص الحلول منها، ثم تنزيلها على واقعنا
وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالجانب الاقتصادي تأصيلا وتفريعا، وعالجت المشكلات الاقتصادية، والانحرافات المالية المتنوعة، وقدم الرسول الأعظم الكثير من الحلول العبقرية، من خلال مفهوم الإدارة النبوية وتطبيقاتها في المال والأعمال، ومكافحة كل أشكال الفساد في المعاملات الاقتصادية والتجارية وحتى الإنتاجية.
الممارسة الاقتصادية
مارس النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفق المفكرين والباحثين، كافة أشكال العمل الاقتصادي، بدءا من رعي الغنم، إلى ممارسة كل أشكال التجارة، كما مارس الأعمال اليدوية الذاتية البيتية، ليربي في المجتمع قيمة الاعتماد على النفس ، فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- حينها يسعى لكي يحقق دخلا لنفسه يغنيه عن الحاجة للغير، وعندما مارس صلى الله عليه وآله وسلم التجارة، حقق نجاحات باهرة منذ صغره في رحلاته المتتالية إلى الشام ومتاجرته بمال السيدة خديجة رضي الله عنها، ثم إقامة سوق للمسلمين، يقام فيها اقتصاد الدولة، على أسس سليمة تنضبط بها جميع التعاملات الاقتصادية، بعيدا عن كل أشكال الفساد.
المجتمع المتراحم
وعمل النبي صلى الله عليه وسلم على تنمية القيم الأخلاقية العالية التي أثرت في إرساء معالم التنمية الاقتصادية بعد تأسيس الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، من خلال بناء المسجد، والمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار الأغنياء والفقراء، فأقام المجتمع على أسس إيمانية وأخوية متينة، يتقاسمون الزروع والدور، ويؤثر بعضهم بعضا على حاجته وخصاصته، فكان هذا المجتمع التراحمي أساسا صلبا صالحا لإقامة المنظومة الاقتصادية بشكل متوازن، بل وسائر النظم الأخرى الاجتماعية، أو السياسية، وغيرها.
وهذا المجتمع الذي يتمتع بأخلاق الإيثار والمواساة تتلاشى معه إشكالات اقتصادية واسعة، وهو الحل الذي لم تقدر على إيجاده الدولة الحديثة بجامعاتها العملاقة، ومؤسساتها التعليمية ذات الميزانيات المالية الضخمة، فباتت المجتمعات موبوءة بالأنانية المفرطة، وقامت الاقتصاديات العالمية على أساس الرأسمالية التي تعزز النزعة الفردية المطلقة (الأنانية)، فمكنت لأصحاب السلطة والثروة من التغول على الطبقة الفقيرة والمتوسطة، والمراباة في أموال الناس، وأصبحت الثروة والأرزاق (دُولة بين الأغنياء) منهم، وبالخلاصة فإن اقتصاد العالم اليوم يفتقد ذلك المجتمع التراحمي الذي تحكمه الأخلاق والقيم الذاتية، وإيجاده هو أحد الحلول الحقيقية التي نستلهمها من التوجيهات النبوية في مجال المال والأعمال.
أخلاقيات المال والأعمال
إن نصوص القرآن والسيرة النبوية وما تضمنته من منظومة متكاملة من القيم: كالأمانة، والصدق، والإتقان، ونبذ كل صور تعاطي الرشوة والغش، وما تضمنته من نبذ لروح الاتكالية في العنصر البشري، الذي يعتبر أساس التنمية الاقتصادية، فهي بلا شك تضمن أعلى درجات الأداء والكفاءة في العملية الاقتصادية، وبذلك تتحقق المثالية في النتائج، وقد جاء في الحديث: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه».
وفي إطار المعالجات النبوية الاقتصادية حارب النبي «ص» ظواهر الفساد المالي كظاهرة الغش في المعاملات الاقتصادية، وكذا تعاطي الرشوة، أو السقوط في فخ المعاملات الربوية التي حذر منها القرآن الكريم لما لها من انعكاسات خطيرة على البنية الاقتصادية للدول ولكونها تساهم بشكل كبير في اختلال التوازن في النظام الاجتماعي، وبث روح الاستغلال وسلب الحقوق مما يربك المنظومة الاقتصادية فتتخلف الأمة عن التقدم والرقي الحضاري والهيمنة.
وفي هذا السياق نجد السيرة النبوية تحرص كل الحرص على تطبيق أخلاقيات إدارة المال والأعمال، باعتبار أن ممارسة العملية الاقتصادية في المال والأعمال من أقرب القربات إلى الله عز وجل، إذ أن كل عمل يبتغي فيه صاحبه وجه الله تعالى ونفع أمته والمساهمة في تقدمها وريادتها يعتبر عبادة.
الفقر والسلبية الاجتماعية
الهروب عن التكاليف الاجتماعية، والفروض الكفائية، سلوك معيب في منطق الشريعة، فهو يؤدي بالضرورة إلى الانسحاب من الحياة الاقتصادية، وهذا مرفوض تماما لمصادمته مقصد إعمار الأرض، ومبدأ الاستخلاف الذي أكد عليه القرآن الكريم.
وقد عالج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ظاهرة الفقر والبطالة بمعالجات وقائية وعلاجية من خلال التشجيع على السعي في الأرض، وطلب الرزق، وتحصيل فرص العمل المتنوعة، فخرج من المجتمع حينذاك التاجر، والصانع، والمزارع، وكان يشجع كل القطاعات الفاعلة، فشجع قطاع التجارة التي كانت ولا تزال أهم النشاطات الاقتصادية التي توفر للمجتمع مصدرا من مصادر الدخل، وتوفر لهم الأقوات والسلع غير المحلية، ولا ننسى تلك الشهادة النبوية التي تعتبر وساما لكل تاجر تشبّع بقيم الصدق والأمانة، وقد شهد بها النبي ﷺ بقوله: « التاجر الصدوق مع النبيين والصديقين».
وفي ذلك رسالة منه ﷺ لمن تقاعس عن مهمة التفاعل مع الأنشطة الاقتصادية لمجتمعه، وليصحح بذلك مفهوم العبادة ويوجهها إلى الضرب في الأرض، والمشاركة في التنمية الاقتصادية، التي تحل مشكلة الفقر والبطالة.
الزراعة
وشجع القطاع الزراعي في رسالة منه صلوات الله عليه وآله للتأكيد على أهمية تحقيق الاكتفاء الغذائي، كما في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما من مسلمٍ يغرِسُ غَرْسًا أو يزرَعُ زَرعًا فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلَّا كانت له صدقةً».
ولم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم لأي فرد من أفراد المجتمع أن يبقى عاطلا دون كسب أو عمل، بل كان يوجههم لأي فرصة يقدر من خلالها على كسب لقمة الحلال،
وعلم النبي ﷺ درسا وافيا لمن جاءه يتسول، بتوجيهه إلى حل مشكلة فقره بالتفاعل مع الحياة الاقتصادية، فقال له: « لا أرينك إلا بعد خمسة عشر يوما…» ثم قال له: « هذا خير لك من أن تسأل الناس أعطوك أو منعوك».
فلم يعالج النبي ﷺ مشكلة السائل بالإعانة المادية المؤقتة، كما لم يعالج المشكلة بالوعظ والتنفير من المسألة، بل حّمله مسؤولية حل مشكلة فقره، بالاعتماد على نفسه، فقد حّل النبي ﷺ مشكلة الفقر في نطاق العمل الإنتاجي وليس في نطاق الصدقة.
وأما الخطوات النبوية لمعالجة الفقر فتتمثل في أن يَكْفُل الأغنياءُ الموسرون أقاربهم الفقراء، وذلك لما بينهم من الرَّحِمِ والقرابة، بحسب درجاتهم وقربهم، كما في مسند الإمام أحمد بإسناد حسن عن أبي رمثة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « يد المعطي العليا، أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك أدناك»، وفي المسند بسند صحيح عن سلمان بن عامر الضبي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الصدقة على المسكين صدقة، وإنها على ذي الرحم اثنتان: إنها صدقة، وصلة».
التكافل الاجتماعي
ثم ينتقل الوجوب إلى المجتمع الموسر، من خلال حلول التكافل الاجتماعي للأفراد العاجزين عن الكسب، في استيعابهم في إطار نظام الزكوات، والصدقات، والكفارات، التي تغطي هذه الفئة التي لا يخلو منها مجتمع بشري، ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها مقصورة على الفقير الذي لا يستطيع العمل والكسب.
يقول د. شوقي إسماعيل شحاتة: «وزكاة المال بما تستقطعه من دخول وثروات، وبتخصيص إنفاق حصيلتها في مصارف اجتماعية معلومة ومحددة، تعمل على إعادة توزيع الدخول في المجتمع، فهي تؤخذ من الأغنياء لإغناء الفقراء».

قد يعجبك ايضا